الدائرة
العدد 248 | 04 تشرين الأول 2019
عمر مسلم


هبطت في حيّنا فجأة كتيبة من العفاريت، يحملون جنازير نار مُستلة من عمق الجحيم، لقد رأيتهم مدججين بأسلحة مستدقة الخواتيم، وكأنها نهايات الأيام، يبسطون حراشفهم في الشارع مثل طواويس الإله، ظننت لبرهة أنها القيامة، لكن حركة الناس الفوضوية في الحيّ أزالت شكوكي باقتراب النهاية، فأنا أعلم بأن اللحظة الأخيرة سوف تموت فيها جميع الكائنات، لكن هذا لم يحصل..

 

إن طريقة هبوطهم المعلنة دعتني للاستغراب والتفكير في حقيقة مجيئهم، صحيح أني أخاف من العفاريت – طبعاً لست وحدي الذي يخافهم – رغم ذلك اختلست النظر من شرفتي، وراقبتهم كيف انتشروا في سراديب الحيّ مثل ملوك الحجارة والجدران، أيقنت أنهم يبحثون عن كائن مختبئ في نفسه، لذلك ظننت أنه ابليس، وخلال كل ذلك لاحظت أن حرشفة سقطت من جسد أحدهم، وعندما رحلوا، هرعت مسرعاً إلى الأسفل والتقطتها، لم أعلم في البداية كيف أصنع منها أمراً مهماً، فكرت في بيعها، لكن من الأحمق الذي سيصدقني إن ذكرت له بأنها حرشفة من جسد عفريت.!

 

في الصباح التالي، عندما كنت أحتسي قهوتي على شرفتي، مع كتاب أحب قراءته في ضوء الصباح، لكثرة الظلام الذي يحتويه، كنت متكئاً كالمثقفين الواثقين من قناعاتهم، رغم أني لا أثق بشيء، لكني أحب التظاهر بالقوة المتولدة عن القناعات الثابتة، عموماً كانت الحرشفة خلف أذني، لا أدري حينها لمَ خطر لي غرسها في حوض التراب بجانبي، أنهيت كوب قهوتي، ثم خرجت في نزهة باتجاه حديقة حيّنا.

 

هالة من اللامبالاة تطوقني وتشحذ همتي وتأد كل نبضة من دماغي تحاول التمرد على سكينتي، لا أشعر بشيء في داخلي، كل عصب في جسدي كان فقط ينقل احساس الدفئ الذي غمرتني به الشمس، وكأني جثة ملقية تحتها.

 

وأذكر أني حين عدت مساءً، خرجت لشرفتي، فرأيت الحرشفة قد نمت منها نبتة غامقة اللون، ذات رائحة حادة، قطفت إحدى وريقاتها الغضّة، ووضعتها في كوب الشاي الذي حضرته بعد مجيئي، وخرجت به مع الكتاب الذي أقرأه في العتمة، لكثرة الضوء المتولد عنه.

 

شربت كوب الشاي، أقصد ارتشفته رشفاً، مثل الأمراء في حفلات الشاي الانكليزية، وعندما أغلقت أبوابي الداخلية والخارجية، وقررت النوم، أصابني هوس غريب، وبدأت أحس بأن شيئاً ما يتحرك في معدتي! فهرعت إلى صيدليتي، وتناولت دواءً للتشنجات، فساعدني على النوم بعيداً عن المغص والتلبك المعوي.

 

حلمت في تلك الليلة حلماً غريباً بعض الشيء، لا بل كل الشيء، لقد رأيت كتيبة العفاريت تحاصر سريري، لقد كانوا يدعونني للإستسلام!

 

لم أكن أعلم ما هو جرمي، وكأن ابليس اختبأ في داخلي دون علمي، خياري الوحيد كان الإستسلام وخلع عن جسدي كل الجلد الذي أرتديه لأظهر بشكل إنسان، لقد كبلوني بنار خشنة، و وضعوا جنازير سميكة في عنقي اتصلت بقدمي، وجروني معهم ككومة قش تنثرها الرياح يميناً ويساراً. وأنا مستسلم للمغادرة معهم استرقت النظر من خلال ثغرات حراشفهم، فشاهدت حرشفة تسقط من أحدهم،!، ثم رأيت نفسي ألتقطها!.

 

كما تدخل الحشرات قشرة الأرض وتختفي، دخلنا الأرض من شق صغير أسفل مبنى مهجور، شعور بالبرودة تتسلل إليّ رغم سلاسل النار التي تكبلني، فقدت الإحساس بأطرافي الهلامية بعدما خلعت جلدي عقب استسلامي لهم، واحتلتني الرهبة. لقد بت من الداخل ككهف مهجور بارد تجتاحه الرياح بعنف وتزيد من خشونة أحشائه. جميع من كانوا في داخل الأرض رمقوني بنظرات ازدراء وقرف، فاستنتجت من أعينهم التي كانت تغتال حيرتي بأنّ الذي ينتظرني عظيم بعظمة الجرم الذي لا أدري ما هو لكن من الواضح أنني ارتكبته.

 

لم أستطع الكلام طوال كل ذلك وكنت أضغط بأسناني على مقدمة لساني كي أتأكد من وجوده، وكأني نسيت أبجديتي أو أنّ القسم الخاص بالنطق في دماغي قد تعطل.

 

أنزلوني في عدم عميق وعلقوا السلاسل التي تكبلني بكلابات في فراغ سحيق، حاولت جاهداً أن أرى له قعراً لكن دون جدوى، ثم أحاطوني بألواح مقعرة الأطراف وبارزة النواة، كأنها آلات تعذيب، وقال لي كبيرهم: اقذف حلمك هنا!

 

لم أعِ حينها ما هو الحلم الذي يطالبونني به، لكنني أخبرتهم بأني لا أؤمن بالأحلام بالتالي يا معشر العفاريت لا أملك أيّ حلم لأقذفه، وما إن أنهيت كلامي، حتى صرخ كبيرهم في منتصف عيني وأشعرني برعشة جعلت أعصابي تهتز مثل حبال جسر يتحطم، كيف إذاً استطعنا اعتقالك في داخل حلمك الذي حصّنت به نفسك قبل نومك.

 

صحيح! لقد تم اعتقالي وأنا في حلم، إذاً هذا كله وهم، ويجب أن أكسر السلاسل وأقع في حفرة العدم صارخاً كي أستيقظ! قرأت ذلك في مقال عن الأحلام! لقد زادني ذلك شجاعة على تحديهم، ففي نهاية الأمر، ومهما كانت الورطة التي لم أعرف إذا ما كانت كبيرة، فإنني سأستيقظ صباحاً وأحتسي قهوتي، وكأن شيئاً لم يكن.

 

عاد وردد لي اقذف حلمك هنا، تملكتني رغبة في شتمه، لكني خاطبته بجرأة المحتضر عندما تبيعه الحياة لقدره، وبنبرة الاستهزاء البشري التي أتقنها جيداً: أيها العفريت العظيم، يا صاحب الحراشف الصلبة، والظلام العنيد، كليل يعارك عاصفة، إن عدت بذاكرتك قليلاً ستعلم بأنه تم تفتيشي بدقة قبل دخولي في عمق الارض معكم.

 

أقسم إنني قلت ذلك بشكل محترم، لا أدري بعدها لماذا استل من أسفل حراشفه سوطاً من رعد، لدغني به في منتصف رأسي، ورشقني بصيف حار جداً، ثم رمى عليّ أسراباً من شوك واخز، علِقت إحدها في أنفي وسببت لي الحكة. إنه شعور بشع، عندما يحتاجك جسدك ولا تستطيع تلبيته لأنك مكبل بسلاسل نارية، ولا تعلم سبب كل ذلك، نعم شعرت بالغضب لكني كبته حفاظاً على السلام بيني وبين عفاريت الأرض التي يبدو أنها تتجسس على أحلامي.

 

فجأة انتشرت ضوضاء حادة، بدأت الفراغات تهتز حولي، تفلتت الجدران من مواثيقها مع جنازير الحديد حتى تشابكت في شكل أدراج لولبية، واستقامت رعود العفاريت على شكل أقلام مغروسة بأطراف الأدراج، بعدها سمعت خطى جبارة كادت تحطمني من شدة الاهتزاز، وانتابني صداع أغشى ما بقي لديّ من حماسة الرؤية، ولم أستطع الحكم حينها إن كانت الأشياء من حولي تتحول لضباب أو أنّ العصب البصري المتصل بدماغي تخللته أغبرة الأرض فتهيأ لي ما كنت أرى، امتزج بأهدابي وعيٌّ غريب، طرفة تُحيِّ وطرفة تُميت، وما بين الطرفة والطرفة كان هناك غيبٌ شديد.

 

لقد نزل عبر الادراج اللولبية إلى حيث نحن في فراغ الارض، بعض من الناس، كانوا يسبحون بلا زعانف، ويطيرون بلا أجنحة، لكن لم يكن لهم عيون، وكأنّ شيئاً ما يجذبهم إليه، فهم رغم سكونهم فإن هالة من الهيبة العظيمة تفوح من رئاتهم. وددت لو أطلب منهم المساندة، لكن فهمت من تلقائي ذاتي بأني لا أتقن لغتهم، مضوا باتجاه حفرٍ عديدة، ثم حينما زالت سكينتهم، عاد كل شيء كما كان، لقد استيقظت.

 

استيقظت وأنا أشبه الحلزون حين يتقوقع على نفسه، تفحصت جسدي بيدي، ونهضت أنظر إلى شحوبي في المرآة. لم يكن حلماً عادياً، لازمني إحساس شديد بأنهم ما زالوا يراقبونني، اتجهت إلى المطبخ، وحضّرت كوباً كبيراً من القهوة، مسرعاً باتجاه المكتبة، سحبت كتاب الظلام خاصتي، يجب أن أنهي الفصل الثالث في هذا الصباح.

 

 

خرجت إلى الشرفة أتحسس الحيّ بعيناي. كنت أعلم بأنهم ليسوا هنا، فقدومهم يجعل ضجيج الناس يخبوا، لكن الخوف الذي نبت في عروقي جعلني أكثر حذراً في الواقع وأقل ميلاً إلى النوم.

 

أنهيت الفصل الثالث من الكتاب مندهشاً، وقد عاهدت نفسي بعدها بألا أعود إليه بعد ذلك، لأنه كتاب مجنون، رغم اعتماده على نظريات الفيزياء في الاستدلال المنطقي، فأنا أعلم وجميعنا يعلم بأن قانون السببية يعمل إلى الأمام فقط، ”لكل سبب مسبب ..الخ“، لكن أن يأتي كتاب غبي ويقنعني بأن السببية تعمل إلى الخلف! فهذا جنون، لقد أصابني تلبك معوي منذ أيام وبحسب الفيزياء الكمومية من الممكن أن يكون سبب التلبك وجبة أكلتها في عشاء الأسبوع المقبل! أعلم بأن الزمن يمشي في خط واحد وإلى الأمام فقط، أما غير ذلك فهو محض جنون، لقد كنت محقاً حين أسميته كتاب الظلام.

 

تابعت حياتي الجميلة. ذهبت إلى العمل نشيطاً كعادتي، التقيت الوجوه ذاتها، سألني أحدهم لمَ منتصف رأسك متورم قليلاً، تساءلت ماذا سيظن إن أخبرته بأنها ضربة رعد من عفريت غاضب، ثم قلت له بأنه حادث بسيط اصطدمت بحائط غرفتي عندما كان الظلام يحاصرني، أقصد عندما كانت الكهرباء مقطوعة.

 

ذلك اليوم، لم تفارق دماغي نظرية السببية الرجعية، وبت أتساءل في داخلي، هل حقاً نعيش حياتنا اليوم بناءً على خيارات اخترناها في المستقبل؟ كيف لنتيجة ما أن تحدث قبل حدوث سببها؟ العِلة ترتبط بالمعلول، والمُحدث بالحادث، كيف ستسبق العِلة معلولها وكيف سيسبق المُحدث الحادثة التي سببته؟ أين المنطق في هذا كُله؟ هذا جنون.

 

عدت من عملي، ودخلت بيتي، أدرت التلفاز، ولفتني شريط لخبر عاجل، يتحدث عن استهداف الطيران الحربي لمجموعة من المدنيين بالفوسفور الحارق، رأيت صور جثثهم، عيونهم محترقة، أنا أعرفهم! لقد رأيتهم سابقاً، ارتجفت عظامي، وتحولت مفاصلي لمضائق يجتازها البحر عُنوة، تشنجت أطرافي، واعتلاني صداع أسود، هؤلاء هم الموكب الذي اجتاز الفراغ حيث كنت معتقلاً!

 

كيف للموت أن يسبق نفسه في وعيّ الضحية؟ الزمن يكتبنا على سطور الحياة بحبر من حديد. كيف للزمن أن يسبق كلماته التي لم تُكتب؟ كيف يستطيع الشهاب الذي أتأمله ليلاً أن يعضّ ذيل ناره الخرساء بعدما ينطفئ؟ كيف للسطور ذات النقاط المتتالية، أن تكون دائرة؟يجب أن أخلد إلى النوم، هذا كثير اليوم، أما غداً فلابد أن أزور أحد الأطباء النفسيين.