الحياة على الجانب الآخر
العدد 210 | 09 نيسان 2017
سومر شحادة


آخر مكان تتوقع أن يُطلب فيه دفتر الخدمة الإلزامية منك، هو بوابة مستشفى عام وأنت تنقل زوجتك إليه في حالة إسعافيّة. بالطبع، لن تستطيع الضحك، لا لأنّ العسكر متجهمون، بل لأنّك خائف عليها، بالقرب منك، والدم يابس في عروقك. كذلك، ليس الغضب في متناولك. كي لا تكون في مشكلتين وتصبح في ثلاثة.

هذا تمرين واحد من تمارين غير محدودة على ضبط انفعالاتك، وعلى الاقتصاص من ذاتك المهادنة أصلًا، أراك وأنت تبحث بين أغراضك عن الدفتر ولا تجده. تفتش عن مفاتيح السيارة والهويّة النقابيّة، لتخرج من جيبك في النهاية ربطة شعر نسائية، أراك حينها، عرضة لأعتى أشكال الشفقة. لكنك بطبيعة الحال، لن تتوسل. فوجودك بعد منتصف الليل برفقة زوجتك، أمام عسكري، لا شيء في الدنيا يمنع وقوفك مكانهُ، على باب المستشفى العام. هو أكثر أشكال التوسل بسالةً. لكن، من سيفهم عليك، لو قلت كلامًا في غير أوانه عن الأدوار التي أوكلت لنا. أو التي نلعبها دون دراية، أو التي دفعتنا سنوات الحرب الستة إلى تلبّسها حتى بتنا أجزاء منها.

تكتب على صفحتك على الفيسبوك، بأنّ الكتابة مصيرك الذاتي. وفي منشور آخر تكتب أنّ الوصول للشعر هو أصعب أشكال الوصول. لكنك في الحقيقة لا تكتب سردًا يقيدك إليه، ولا تفكر بالشعر منذ ثلاث سنوات، أنت فقط تجرب الفهم. تحاول الخروج من وعيك المسيطر إزاء العالم ومن ثمّ دخوله عبر وعي الشخصيات التي تفكر بكتابة حكايتها. كي لا تقع في مشكلة الوعي المتحكم في مصائر أنت من خلقتها. لكن ينبغي لها أن تتحرر لتفكر بعيدًا عنك. لأنّك معطوب، إنسان خَرِبْ. “خرفان” كما قال لك العسكري وهو يرمي ربطة الشعر في وجهك. العسكري، الذي كنت تفكر لو أنّ صدفة ما، قادتك للعب دورهِ؛ هل كنت ستقول لرجل ملهوف على زوجته على باب المستشفى بأنّه خرفان؟ فقط لكونه تصرف كأبله. بعدما أفقدته غرابة اللحظة كلّ الانفعالات الطبيعية التي قد تصدر عن إنسان سوي. ثمّ لو قادته خساراتٌ ما لأنّ يصير كاتبًا يعكف عن الدور الاستعراضي للكتّاب في الأزمات. ويتوارى عن الناس كي يتحرر من وعيهِ، هل كان سيفكر، ذلك العسكري، وزوجته إلى جواره، في الأدوار التي أوكلت لنا، أو التي دفعتنا سنوات الحرب إلى تلبّسها كما لو أنّنا جزء من هذه الأدوار. نحن، الذين نشهد لحظة توسل طويلة، لإنهاء الرواية التي ما لبثت تطحن أبطالها.

أكثر ما يلفت قارئ رواية بول أوستر “رجل في الظلام” بترجمة (مولانا) أحمد م. أحمد.هي تلك الفكرة الفاتنة التي تقول بأنّنا أبطال حكاية تدور في رأس أحد ما. وأنّ الحرب التي تدور في أمريكا ما هي إلا حلم رجل مزعج ينبغي قتله لإنهاء حلمه/ حربنا. كما يزعم أبطال الرواية. وهذا بالضبط، ما يقود إلى الإحباط حيال فعل الكتابة. إذ، لا يمكن أن يطلق وعي يكاد الإنهاك يُصيّره جنونًا، لا يمكن أن يطلق أنساقًا معافاة. بالتالي، تصير الكتابة، كما نرى، تكريسًا لأنساق نشأت في الحرب واكتسبت ثقافتها. إن كانت فكرة بول أوستر صحيحة، لماذا لا أجرّب الكتابة عن حياة جميلة تحدث في عالم موازٍ لعقل كاتبها؟!

ما الذي يمنعني عن كتابة ما كنت أحلم بهِ، عوضًا عن كتابة ما يعيشه الآخرون في حرب لا تعنيهم أصلًا؛ طالما أدرك أنّ كل كتابة أقترفها سأصيرها على نحو ما!

*****

خاص بأوكسجين


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"