الجوع يتولى القيادة
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
سامي سعد


المساحة وحدها ظلت ثابتة

ربما تعذر على الوقت مضغها

لم نُضف للحجارة شيئاً

الطلاء الجديد صار قديماً

والأسطح لا ترتشف الماء

في الصالة تتكوم حياتنا

كنمل يتداعى على نفسه

الأعمدة تقاوم السقوط

تستند إلى ظلها المكسور

الحائط يتشقق لكنه

لا يسمح للهواء بالمرور

دخان من كل الأزمنة

يعبق في الفضاء الحبيس

وتذكارات على الحائط

تضحك بأسى

كل شيء يمضي قُدماً

ونحن لا نحدق أبداً في الساعة

نحسب الوقت بآلات قديمة

وإذا صادفنا الحلم نرتجف

ندخل للغرف ونخرج

للبكاء السريع وتبديل الملابس

وننام كذئاب حنونة

يحدق أحدنا في الآخر

تقطن الصدفة معنا

تناولنا أشياءنا المبعثرة

وفي كل شبر نقذف حياتنا

ولا أحد يأتي ليلم الزجاج المكسور

غبار على النوافذ والأبواب

غبار يرقد في العيون

غبار يجثم على القلب،

ذات مساء لا يموت أبداً

رحل النظام إلى غير رجعة

وغادرت النظافة للأبد

وكل صباح نتجدد في الذهول

نرتب الموت على وجوهنا

ونسير بمحاذاة الحياة

كسائح يتجول على الشاطىء

 

 

نشرب شاياً وقهوة

نتذكر وجبات بائدة

وإذا تاقت أرواحنا للمرح

نسافر إلى أزمنة قتيلة

لو كان لأمي أن تعرف

أن المطبخ صار خزانة

وأن برطمانات البهار امتلأت بالفراغ

أقراص الكشك آلت للفئران

والحمام الواسع لما يزل واسعاً

ورائحة الغرباء تملأ أركانه

في الغرفة القبلية تنام الفوضى وأولادها

ودولاب يبكي شيخوخة طاعنة

حيوات مدسوسة تحت الأسرة

ملاءات تتلوى بالحسرة

فيما أطباق خزفية تقاسي الحنين

وفي غرفة الحبوب يا أبي

نتمدد كأجولة من البذر المالح

الباب البحري أوصده النسيان

فيما نحن أوصدنا النافذة البحرية

نتأهب في كل دقيقة للحياة

فيما تتأهب الحياة دائماً للفرار

نحن مللنا المطاردة والصبر

نأكل/ نذهب/ ونعود/

نصلي لأسباب نفسية وغامضة

نوقد ناراً تروض ثلج المشاعر

هائمون في الأرض كحلم خفيف

وعلى موسيقى الرصاص ننام

لا ينقطع الزائرون عن البيت

للاستجمام وكسر الرتابة

التمرغ في دار الأيتام

ولا نساء في برامج الزيارة

الهاتف لا يرن إلا بأخبار سوداء

يطيب لنا أحياناً

أن نناقش قضايا الكون

الخلق/ العدل/ الحظ

قصائد/ أفلام/ ونكات

لكن في كل الأحوال

لا ينسى أحد منا

أن يبتلع العهد المقدس

وينام على وجل وطهارة

السرعة والبطء: عذاب يومي

في انخفاض الضغط وارتفاع الغضب

في الوقت الذي يركض في النوم

وينام في أمسيات الكآبة

نعرف كل منابع الأسئلة

ولا نجهل خارطة الجواب

لكن من باب الريح الواسع

سنمرق لسماوات خاصة

والباحثون عن تفاصيل دقيقة

سيعثرون على الفراغ

وحين نهبط للأرض

سنتحدث اللغة الدارجة

وعلومنا في البرزخ القاصي

ستنتظر العين الثاقبة

جائعون إلى حد الصراخ

ورغيف الشمس ناء وجاف

فما الذي يجعل الوقت كأرنب

كلما حدق فينا؟

يتردد المطر على حواف النوافذ

وأحلامنا تشبه الأحجيات

نريد أن نسقط فنطير

ونريد سطوراً لم يسطرها الكتاب

فيما الحواس لا تقودنا لشيء

نستدل على أنفسنا مصادفة

نجرب مذاق الطماطم بالموز

ونحشو البرسيم في حنجرة الهواء

كم أقسمنا للبحر دون مناسبة

ما عدنا عاشقين ولا صيادي لآليء

محض موج يتوالد في الموت

طاقات مودعة في بنوك اللصوص

وأمانات مجهولة الأرقام

نتحدث عن البهجة كخبراء

ولدينا أساطير من الحكمة الجائعة

بشوارب صفراء ولامعة

وأحذية مدببة كالسهام

سنرقص على موسيقى الوحل

وحين ينبغي أن نسافر

ستعود أشباحنا للبيت

مساكين من شاهدوا المعجزات

وهي تسكن في الخرائب

وتعيش على نظرات مسحوقة

كفصائل من طيور ضالة

سنموت على أشرعة السفن

وعلى أرصفة غارقة بالبضائع والشحم

 

والكلمات التي ينبغي أن تقال

سوف ينطقها الوارثون

بلكنة مجهولة المصدر

مدهونة بصبغة الحداثة

حين القدم تدب في الأرض

والرأس راقد في المغارة

كان نصيبنا من الموت وافراً

والتراب دائماً

يتعذر عليه البوح

هكذا ترجمات غير أمينة ستتم

وتسمي الكواكب بأسماء الشوارع

حيث لا تاريخ يقطن في الحب

ولا حب يصدح بالمآثر

سنوصي بمستحيلات قصيرة الأجل

وعلى الأشجار أن تحفظ نسلها

ليس من بدائل عن الليل والنهار

ولا مشروع آخر

لينجب الكائن الطليق

إن سعادات كقطرات الطل

سنقذفها أسفل الجذوع

وتحت عتبات حجرية

ولن نخبر بأسمائها أحداً

حرصاً على مستقبل الجهل

إذ كان يمكن من دون لغة

أن نلج إلى واحة الحب

نحن ضحايا التأويل

صبيان اللحظة المائلة/ أصحاب السبق في الخسارات

وحائزو وسام التوجس

وليس على أحد رثاء المجهول

ولا مديح الوالغين في الرفض

الولائم على تقاطعات الدروب

والشهية معلقة من قرنيها

أصفاد من خيوط عروش مقدسة

تزرع الغموض في دم الجنين

وبلا هوية سيمرق الضوء من السور

ولأسباب أكبر من الحصر

لن يشعر الحائط بالبرودة

ولا الجلد الغليظ بأنفاس الفراشة

فيما عناكب ستهبط للساحة

تؤسس للغبار مملكة الغبار

إن شيئاً لن يمنع الليل من الضحك

ولا النهار القصير من الاعتذار

الجوع وحده سيتولى القيادة

والجندي يحارب كي لا يموت

من أجل أشياء فائقة البساطة

تحرق الأرض نفسها

ويغضب الجبل من لسعة الريح

يتسلح الدود بسموم قاتلة

وفي محبسنا الرمادي

كنا نفكر بالبحر

حين داهمنا موج صوتك الأخضر

البحر الذي يعض الأصابع

ولا يخضع إلا لزرقة صافية

كنا نفكر بهندسة جديدة

ووسائل لقاح مبتكرة

حين نزوج مهراً من كلب

سنقامر على سباقات العصر

نكون مرة في الشرفة

نعاني الدوار من أعلى

نعتذر للنجمات المحترقة

 حيث لا تطرد الأرض الضحايا

وينال الحنظل وجبة مقدسة

كنا نفكر في خط السماء

حين ينزوي عن البيت قليلاً

ويتركنا لحياة موحشة

كنا عراة وقليلي الجسارة

لنطرق باب الحفل

فتركنا على الباب الأظافر

علامة واعتذاراً

وحين كان ينبغي الصراخ

بنباح يقطع سيل الهديل

أطرقنا كشهداء

باركنا لليل ظلماته

كنا نفكر بالحب

حين داهمتنا الدموع

والساحر ذو النزوات الأصيلة

سينفث في علبة السر

ويعجن بالدمع نور ابتسامة

يطلق مخلب البلابل من رأسه

تتراقص فوق أسلاك الكهرباء

سوداء بمعاطف من عشب

ولاشيء أبعد من الرغبة

الساحر الذي يتألم في اللعب

سيدق الدقائق في كعب الحذاء

وفي الليل يمتطي جناح الذكريات

في القبو الذي يعج بالدجاج والماعز

قصائد إيلوار وحكمة المخبولين

فلا لغة تمرق دون شهوة

سيعاقب الصمت نفسه

حين ينسى الرائحة.

___________________

من مجموعة شعرية بعنوان “عابرون وأجلاف” تصدر قريباً.

*****

خاص بأوكسجين


روائي وشاعر من مصر. من اصداراته الروائية: "تلة الذئب"" 2008، و""السراديب"" 2015."