البريء
العدد 197 | 22 آب 2016
غراهام غرين


   ارتكبتُ خطأً باصطحابي لولا إلى هناك. أدركتُ ذلك حالما ترجلنا من القطار في محطة القطار الريفية الصغيرة. في ليلة خريفية يتذكّر المرء عهد الطفولة أكثر من أي وقت من العام، ووجهها المدهون المُشرق، والحقيبة الصغيرة التي لا تدّعي بأنها تحتوي  “أغراضنا” اللازمة لقضاء الليلة، وببساطة لم تكن تتلاءم مع مستودع القمح القديم القائم على الجانب المقابل من القنال الصغيرة، والأضواء القليلة في أعلى التل، ومُلصقات عن فيلم قديم. لكنها قالت، “هيا بنا ندخل الريف”، وكان الأسقف هندرون، طبعاً، أول اسم خطر على بالي. لا أحد سيعرفني هناك الآن، ولم يتبدَّ لي أنني سأكون أنا الذي تذكّر.

   حتى الحمّال العجوز نقر على وتر حسّاس. قلت، “سوف تكون هناك عربة بأربعة دواليب عند المدخل”، وقد كانت هناك، على الرغم من أنني للوهلة الأولى لم ألحظها، عندما رأيت سيارتيّ الأجرة وأنا أفكّر، “المكان القديم يعود إلى الحياة”. كان الظلام حالكاً، وضباب الخريف الرقيق، ورائحة أوراق النبات الرطبة ومياه القنال مألوفة بعمق.

   قالت لولا، “ولكن لِمَ اخترت هذا المكان؟ يبدو كئيباً”. كان من العبث أنْ أشرح لها لماذا لم يكن كئيباً بالنسبة إليّ، وأنَّ ركام الرمال ذاك بجوار القنال لطالما كان هناك (عندما كنتُ في الثالثة من العمر أتذكّر أنني اعتقدتُ أنَّ ذلك هو ما يُسميه الناس شاطئ البحر). حملت الحقيبة (كنت قد قلت إنها خفيفة الوزن؛ كانت ببساطة جواز مرور مزوَّر للمظهر المحترم) وقلت إننا سنمشي. عبرنا الجسر الصغير المحدودب وتجاوزنا ملاجئ الفقراء. عندما كنتُ في الخامسة رأيتُ رجلاً في منتصف العمر يلج أحدها لكي ينتحر؛ كان يحمل سكيناً وسكان الحي كلهم يلاحقونه وهو يرتقي الدرج. قالت، “لم يخطر في بالي أبداً أنَّ الريف هو هكذا”. كانت ملاجئ قبيحة المنظر، علباً صغيرة من الحجارة الرمادية، لكنني كنتُ أعرفها أكثر من أي شيء آخر. ذلك المسير كله كان أشبه بالإصغاء إلى قطعة موسيقية.

   ولكن كان يجب أنْ أقول شيئاً للولا. ليس خطأها أنها لا تنتمي إلى هذا المكان. اجتزنا المدرسة، والكنيسة، ووصلنا إلى الشارع الرئيس الواسع القديم وإلى الإحساس بالسنوات الاثنتي عشرة من حياتي. لو لم آتي، لما عرفت أنَّ ذلك الإحساس سيكون بهذه القوة، لأنَّ تلك السنوات لم تتصف عموماً بالسعادة أو بالتعاسة؛ كانت سنوات عادية، أما الآن مع وجود رائحة احتراق الخشب، والبرد الذي يلسع منبعثاً من حجارة الرصف الرطبة القاتمة، اكتشفت أنني عرفت ما الذي شدّني. إنها رائحة البراءة.

   قلت للولا، “إنه نُزُل جيد، ولن نجد شيئاً هنا، سوف ترى، يبقينا يقظين. سوف نتناول طعام العشاء والمشروبات ومن ثم نأوي إلى السرير”. لكنَّ الأسوأ هو أنني لم أستطع إلا أنْ أتمنى لو أنني كنت وحدي. لم أكن قد عدت طوال تلك السنين ؛ ولم أُدرك  مدى قوة تذكّري للمكان. الأشياء التي كنت قد نسيتها، كركام الرمل هناك، عادت إليّ بقوة الرثاء والحنين. كان يمكن انْ أكون غاية في السعادة في تلك الليلة بطريقة خريفية حزينة، وأنا أتجول في أرجاء البلدة، وأجمع ما يُذكرني بتلك المرحلة من الحياة عندما يكون لدينا، مهما شعرنا بالبؤس، توقعات. لن يكون الوضع نفسه إذا عدتُ من جديد، لأنه حينئذٍ ستكون هناك ذكريات لولا، ولولا لم تكن تعني أي شيء. لقد تصادفَ أنْ اختار أحدنا الآخر في حانة في اليوم السابق وأُعجبَ كل منا بالآخر. لا بأس بلولا، لم يكن هناك مَنْ أقضي الليلة معه، ولكن لم يكن لها مكان في هذه الذكريات. كان ينبغي أنْ نذهب إلى ميدنهيد. وهي منطقة ريفية أيضاً.

 

   كان النُزُل قائماً حيث أتذكّره. وهناك مجلس البلدة، لكنهم أقاموا داراً جديدة للسينما وقبّة مغربية ومقهى، وهناك مرآب لم يكن موجوداً على أيامي. وكنت قد نسيتُ أيضاً المنعطف نحو اليسار والتل شديد الانحدار الذي تنتشر عليه الدور.

   قلت، “لا أصدّق أنَّ ذلك الدرب كان موجوداً على أيامي”

   سألتْ لولا، “أيامك؟”

   “ألمْ أُخبركِ؟ لقد وُلِدتُ هنا؟”

   قالت لولا، “لابد أنك نادم على جلبي إلى هنا. أعتقد أنك كنت تفكّر في أمسيات كهذه وأنت صغير”

   قلت، “نعم”، لأنَّ ذلك لم يكن خطأها. إنها طيبة. أحببتُ رائحة عطرها. وكانت تستخدم أحمر شفاه مناسباً لها. كان ذلك يُكلفني الكثير، خمسة جنيهات للولا ومن ثم الفواتير والأجور والمشروبات، لكنني كنتُ سأرى أنها نقود أنفقتْ في مكانها لو أننا في أي مكان آخر في العالم.

   تلكّأتُ عند أسفل الطريق. كان شيء في ذاكرتي يتحرك، ولكن لا أعتقد أنه كان يجب أنْ أتذكَّر ما هو، مع هبوط حشد من الأطفال أسفل التلّ في تلك اللحظة نحو مصباح الشارع الذي يكسوه الصقيع، مع أصواتهم الحادة والزاعقة، وأنفاسهم تنفث بخاراً لدى مرورهم من تحت المصابيح. كانوا كلهم يحملون حقائب من القماش، وبعض تلك الحقائب كانت مزخرفة بأحرف أسمائهم الأولى. كانوا يرتدون أفضل ملابسهم ويتصفون بقدر من الحياء. الفتيات الصغيرات بقين وحدهن ضمن ما يشبه المجموعة المتلازمة المُحاصَرة، ويتذكّر المرء شرائط الشعر والأحذية اللامعة ونغمات البيانو المُهدِّئة. تذكرتُ هذا كله: كانوا ذاهبين لتلقّي درس الرقص، كما كنتُ أفعل، إلى منزل صغير مربّع الشكل فيه ممشى تحف به أزهار الوردية يقع في منتصف المسافة إلى أعلى التل. وتمنيت أكثر من أي وقت مضى لو أنَّ لولا لم تكن في صحبتي، لم تكن في مكانها على الإطلاق، وأنا أفكر في أنَّ “ثمة شيء مفقود من الصورة”، وتوهج إحساس واهن بالألم في أسفل عقلي.

   شربنا عدداً من الكؤوس في الحانة، لكنهم لم يلبوا طلبنا للطعام إلا بعد مرور نصف ساعة. قلت للولا، “لا أظنك ترغبين في إرهاق نفسك بالتجول في أرجاء البلدة. إذا لم يكن لديك مانع، سوف أغيب عشر دقائق وألقي نظرة على المكان الذي كنتُ أعرفه”. لم تمانع. وكان هناك رجل من السكان في الحانة، لعله مدير مدرسة، يتوق إلى دعوتها إلى شرب كأس: لم أفهم كيف حسدني، وأنا أدخل معها هكذا قادماً من البلدة لقضاء ليلة واحدة.

 

   ارتقيت أعلى التل. المنازل الأولى كانت كلها جديدة. وأبغضتها. كانت تُخفي أشياء كالحقول والبوابات كان يمكن أنْ أتذكّرها. كأنها خريطة مبتلّة داخل الجيب وقد التصقت بعض أجزائها معاً، عندما تفتحها تجد أنَّ بقعاً كاملة قد اختفت. ولكن في منتصف الطريق إلى أعلى، كان هناك المنزل المطلوب، والممشى: لعل السيدة العجوز نفسها لا زالت تعطي الدروس. والأطفال يجعلون السن يبدو أكبر بشكل مُبالَغ. لعل عمرها في تلك الأيام لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين. كدتُ أسمع أنغام البيانو. كانت تتبع الروتين نفسه. الأطفال تحت سن الثامنة ما بين الساعة 6-7. والأطفال من سن الثامنة وحتى الثالثة عشر، بين الساعة 7– 8. فتحت البوابة ومشيت على درب قصير. كنتُ أعمل على التذكُّر.

   لا أعلم ما الذي أعاده إلى الذاكرة. أعتقد أنَّ السبب ببساطة هو فصل الخريف، البرد، وأوراق الشجر الرطبة التي يكسوها الصقيع، وليس أنغام البيانو، الذي كان يعزف أنغاماً مختلفة في تلك الأيام. تذكّرتُ الفتاة الصغيرة كما يتذكّر المرء أي شخص ليست هناك صورة يُشار إليه بها. كانت تكبرني بعام: تشرف على سن الثامنة. أعتقد أنني ضمرتُ لها حباً جماً لم أضمر مثله نحو أي شخص منذ ذلك الحين. على الأقل لم أرتكب أبداً خطأ الضحك على حب الأطفال. وانتهى بالفراق الحتمي الرهيب، لأنه لا يمكن أنْ يصل إلى مرحلة الإشباع. وطبعاً يمكن تلفيق حكايات عن منازل تحترق، وحرب ومهام خطرة يُثبت فيها شجاعته في عينيها، ولكن ليس عن الزواج. كان معلوماً دون تصريح أنَّ هذا لا يمكن أنْ يحدث، لكنَّ المعرفة لا تُخفّف من المعاناة. وتذكّرت عندما كنا نلعب الغمّيضة في حفلات عيد الميلاد كيف كنتُ أتمنّى أنْ أُمسِك بها، لكي أجد ذريعة للمسها ومعانقتها، لكنني لم أُمسك بها أبداً؛ كانت دائماً تبتعد عن طريقي.

   لكنني حظيت بفرصتي على مدى أسبوعين خلال فصليّ شتاء: ورقصتُ معها. ولكنْ زاد الطين بِلّة (وأدّى إلى قطع التماسّ الوحيد بيننا) عندما أخبرتني في أثناء أحد الدروس الأخيرة في الشتاء أنها في العام التالي سوف تنضم إلى صف الطلاب الأكبر سناً. كنتُ أعلم أنها هي أيضاً مُعجبة بي، ولكن لم يكن لدينا أي أسلوب للتعبير عن ذلك. كنتُ أذهب لحضور حفلات عيد ميلادها وكانت تحضر حفلات عيد ميلادي. كان ينبغي أنْ أنضم إلى أصحابي من الذكور المزعجين الصاخبين، وكان عليها أنْ تنضم إلى مجموعتها من بنات جنسها المُحاصَرة، التي تتعرّض للتحرش، الساخطة بأصوات عالية، في طريقهن إلى أسفل التل.

   ارتعشتُ هناك في الضباب وقلبت ياقة معطفي إلى أعلى. كان البيانو يعزف رقصة من عرض سي. بي كوكرين الساخر. شعرت كأنني قطعت رحلة طويلة ولم أجد في ختامها إلا لولا. هناك شيء في البراءة لا يروّض المرء نفسه أبداً على فقدانه. والآن عندما تنتابني التعاسة بسبب فتاة، أستطيع أن أذهب ببساطة وأستبدلها بأخرى. حينئذٍ أفضل ما فكّرتُ فيه هو أنْ أكتب لها رسالة مفعمة بالعواطف وأدسّها من خلال ثقب (عجيبٌ كيف بدأتُ أتذكّر كل شيء) في خشب البوابة. وكنتُ قد أخبرتها ذات يوم عن الثقب، وعاجلاً أو آجلاً كنتُ واثقاً من أنها سوف تُدخِل أصابعها وتعثر على الرسالة. وتساءلت ماذا كانت تحتوي تلك الرسالة. أعتقد أنني في تلك الأيام لم أكن قادراً على التعبير عن نفسي : ولكنْ لأنَّ التعبير بالكلمات لم يكن كافياً، فذلك لم يعن أنَّ الألم كان أقلّ مما يُعانيه المرء أحياناً الآن. أتذكّر كيف بقيت أتحسس الثقب على مدى أيام وكنتُ دائماً أجدها في مكانها. ثم توقفت دروس الرقص. ولعلي مع حلول فصل الشتاء التالي كنتُ قد نسيت.

   بينما كنتُ أخرج من البوابة نظرتُ لأرى إنْ كان الثقب موجوداً. كان موجوداً. أقحمتُ إصبعي، فإذا بي أجد قطعة الورق تستقر هناك في مأواها الآمن منذ فصول طويلة وسنين. أخرجتها وفتحتها. ثم قدحتُ عود ثقاب، وهجاً خفيفاً من الحرارة في الضباب والظلام. وصُعقت عندما رأيت على ضوء لهبه الضئيل صورة تتسم بالإباحية الفظّة. لا مجال للخطأ: كانت الأحرف الأولى من اسمي في أسفل رسم تخطيطي صبياني غير دقيق لرجل وامرأة. لكنها لم تُثِر من الذكريات إلا أقل مما أثاره بخار الأنفاس، والحقائب القماش، وورقة النبات الرطبة، أو ركام الرمل. لم أتعرّف عليه؛ لعل الذي رسمه شخص غريب قذر المخيلة على جدار مرحاض. كل ما تذكّرت كان نقاء، وقوة، وألم تلك العاطفة الجياشة.

   في أول الأمر شعرتُ كأنني تعرّضتُ للخيانة. قلت لنفسي، “بعد كل شيء، إنَّ لولا ليست غريبة كثيراً عن هذا المكان”. ولكن في وقت لاحق من تلك الليلة، عندما تقلّبتْ لولا مبتعدة عني ونامت، بدأتُ أُدرك البراءة العميقة لذلك الرسم. لقد اعتقدتُ أنني كنتُ أرسمُ شيئاً ينطوي على معنى فريد وجميل: والآن فقط وبعد مرور ثلاثين عاماً من حياتي بدت تلك الصورة إباحيّة.

*****

خاص بأوكسجين