البحث عن الفايروس المفقود 4
العدد 256 | 23 أيار 2020
زياد عبدالله


 

بدأ الأمر كمطالبة بسيطة لا تتعدى أمنية باكتساب قوى خارقة طفيفة، تقتصر على مناماتي مثلاً، وتوسيعها بحيث تحتكم على إمكانية أن تصير رؤى، أو استشرافاً طفيفاً للمستقبل. كما تضمنت الأمنية أن يتاح لي، وإن بنسب ضئيلة، الاطلاع على ما يعتمل في أعماق هذا أو هذه، ذاك أو تلك، وتقليب أعماقهم/أعماقهن كصفحات كتاب.

تحلّيت بأكبر قدر من الواقعية في تطلعي هذا، ولم أقفز إلى خوارق من قبيل القدرة على الطيران، مكتفياً ومبتهجاً بملاصقة الأرض، وإطالة ذلك قدر ما أمكن، مع أنني كنت أحب أن أخرح أرنباً من قبعتي، وأطيّر حمامة من جيبي.

لم يتحقق مما أسلفت سوى الشيء الطفيف، وشكّلت العزلة والشوارع الخالية وكآبة البشر جرّاء الوباء مولداً هائلاً للحنين، ترافقت مع منامات شديدة الكثافة، حوّلت نومي إلى نوم متقطع، أصحو فيه أكثر من مرة على منام ثم أعاود النوم فأدخل في ملكوت منام آخر. وهي منامات مبهجة أو مؤلمة أو مبهجة ومؤلمة في آن معاً، من بطولة الأموات أكثر من الأحياء، ولها أحياناً أن تكون متمركزة حول هواجسي وأحاسيسي وترميزها لتظهر في سياق حلم، وبالتالي لم تخل من ظهوري محتكماً على قدرات خارقة، كما في منام كنت أقف فيه على خشبة مسرح وأمامي جمع غفير من البشر، بادرتهم القول بثقة مفرطة:

– لم آت هنا لألقي عليكم شيئاً مما أكتب! أنا ساحر!

وأخرجت من جيبي عصا مطوية وفردتها، ثم وجهتها إلى الجمهور فاختفى، وامتلأت القاعة نجوماً براقة رحت أراقبها بزهو وهي تتلاشى وتُظهر خواء المقاعد أمامي، فإذا هي امرأة تفارق مقعدها في الصفوف الأخيرة، تهش عنها غبار النجوم وتسعل.

 وجهت عصاي نحوها مراراً وهي تتجه مسرعة نحو الباب. لم تختف، بل فتحت الباب واختفت بإرادتها.

حين انتبهت من المنام قلت، لابد أن مقاومتها لسحري سحر بحد ذاته.

لم أتبين تلك المرأة، وأنا في المنام أصلاً لم أرها إلا من الخلف وهي تمضي وشعرها منسدل خلفها، لكن شعوراً جميلاً حلّ عليّ، دفعني لأعيش تلك الأحاسيس الجميلة التي عايشتها في فترة من حياتي مع المحقق فيليب مارلو في فيلم روبرت ألتمان “الوداع الطويل”، وهو لا يطفئ سيجارته حتى وهو يركض، وفيلم رومان بولانسكي “تشاينا تاون”، وغيرها من أفلام كثيرة شاهدتها بكثافة شديدة تكون فيها شخصية المحقق فوضوية تحتكم على لامبالاة أسطورية ليبدو غموض ما تجابهه متناغماً مع قلقها الوجودي وحساسيتها العالية، وقدرتها العاطفية على التورط عميقاً فيما تحقق فيه، تاركاً لشخصية المحقق الأثيرة أن تسعّر مخاوفي وقلقي لأركض في مساحة لا متناهية من الضياع.

وبما أن الحياة حالياً متوقفة، فقد كان مغرياً أن أصبح محققاً يتحرى المنامات، وبدل التحقيق في اختفاء رجل أو امرأة، فليكن التحقيق مُنصباً على امرأة دخانية، لا أعرف أي شيء عنها، متوسطة الطول، شعرها طويل بعض الشيء، وما عدا ذلك فعلاماتها الفارقة صفر، إلا أنها تمتلك قدرة هائلة على مقاومة السحر. وبدا لي يقيناً بأنني حيال لغز يعجز عن حلّه أعتى المحققين، ويجب أن أكون ساحراً لا محققاً لأتمكن من ذلك.

وتوالت الأيام على ما هي من عزلة وحنين ومنامات، إلى أن رأيت في منام آخر امرأة على صهوة حصان في مدينة ملاهي، يدور بها وحيدة رفقة قطيع بلاستيكي من أحصنة أخرى وزرافات وغزلان، وهي في شرود تام – كما في الأفلام حين تصاب بطلة الفيلم بصدمة كبيرة فلا تجد ملاذها إلا في مدينة الملاهي التي تكون خاوية على الأغلب فتعزز من وحشتها ووحشة المشاهدين- وراحت كلما توقفت اللعبة عن الدوران بها تمتطي حصاناً أو زرافة أو غزالاً إلى أن امتطها جميعاً ووزعت عليها حنانها ووحدتها، وودعتها بتلويحة من يدها.

استيقظ مع استيقاظي المحقق مجدداً في داخلي، وقد طرأت مستجدات جديدة على صعيد هوية المرأة الدخانية، التي أفصحت على الأقل عن مظهرها، وبدت لي قادمةً من ماض بعيد، وهنا خلصت إلى نظرية هي الأولى من نوعها على صعيد التحقيق والمحققين، تتمثل بأن عليّ الاعتماد على ثالوث العزلة والحنين والمنامات، وهذه الأخيرة أثبتت إلى الآن نجاحاً لا بأس به، طالما أنها زوّدتني بمظهر تلك المرأة، وبالنسبة للعزلة فهذا ما أعيشه وهو أمر إجرائي يعيشه نصف أو ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولها أن تكون إيجابية طالما أن تحقيقي يجري على صعيد داخلي يتطلب مني الغوص في أعماقي. يبقى الحنين الذي سيكون بلا أدنى شك مفتاح حلّ اللغز، طالما أنني متأكد أولاً من أن المرأة آتية من الماضي، وهذا ما قادني إلى تساؤل عجيب مفاده: لماذا كل مجسمات الحيوانات التي امتطتها عاشبة؟

بداية اكتفيت بالخلوص إلى أن هكذا لعبة غالباً ما تكون فيها المجسمات لحيوانات أليفة، لا بل هي لأحصنة فقط، وما الزرافات والغزلان إلا إضافات حلمية! لكنني لم أستسلم لهذا المنطق، ورحت أفكّر وأنا أخفق البيض لفطوري بأن منامي لم يكن جامحاً بالقدر الكافي، لدرجة أسميته بالمنام الأليف لا بل العاشب، فالأجدر إظهارها ممتطية حيوانات مفترسة، نعم مفترسة، وأول ما تبادر إلى ذهني النمر بجلالة رونقه الافتراسي، نعم يليق بها النمر، تروضه، تمتطيه، ترتدي ثياباً مخططة كما فرائه، وليمسي قطاً أليفاً مقارنة بشراسة جمالها.

حين وضعتُ فطوري على الطاولة، رأيت أن في النمر خيطاً معتبراً في حل لغز المرأة الدخانية المتشابك، وكان إحساسي بذلك قوياً جداً، أشبه باليقين الأعزل، اليقين المماثل ليقيني من أنني أعددت أسوأ بيض مقلي في العالم، ومع ذلك واصلت تناوله، مستعيناً بهاتفي متفقداً الفايسبوك وكل ما يلهيني عن رداءته، بما في ذلك مكالمة فائتة لرقم هو ورمزه الدولي مجهولان، خلصت في الحال إلى أنها مكالمة من اتصالات الاحتيال الالكتروني، مواصلاً احتيالي على رداءة البيض وأكله.

 ليلاً تحول هذا الرقم إلى المفتاح الأساسي في حلّ لغز المرأة الدخانية، موقظاً الحنين لتتجسد نظريتي مستكملةً أركانها الثلاثة، فهاتفي رنًّ رنة واحدة ثم صمت، وطالعني الرقم ذاته، ولأتبين على غوغل أن النداء الدولي 0063 الذي حمله هو نداء الفلبين! وبمجرد ظهور اسم هذه الدولة على شاشة هاتفي، توصل المحقق الذي هو أنا إلى الحقيقة، وما كان لي أن أفعل سوى أن أعاود الاتصال فإذا بصوت أنثوي بالكاد سمعته:

– معك لورنا.. تذكرتني!

ثم حلّ الصمت وأنا أسمع أنفاسها أو شبّه لي، ولتستدرك بصوت أعلى قليلاً:

– أوغستين .. أوغستين.. 

وما أن رددتْ هذا الاسم حتى أمسى يقيني مدججاً، راسخاً، متقداً، خطراً، مخيفاً، مدهشاً، وزمجر النمر، وافترس الأحصنة والزرافات والغزلان، وهيمن جمال أوغستين الأسطوري على الوجود.

كان مناماً تداخل مع رقم طفى على شاشة هاتفي ما أعادني بالزمن ثماني عشرة سنة، في أيلول رطب في مانيلا، في مقهى في “مكاتي”، اعتدت أن أقصده صباحاً لأنعم بهدوء يلي العواصف ولا يسبقها، عواصف من الأحداث والمفاجآت والبشر، والليالي الصاخبة الطويلة، وكان قد مضى على زيارتي مانيلا سبعة أيام وفي التاسع سأسافر، هِمت في شوارعها محمّلاً بطاقة عجيبة على المغامرة ومعززاً قناعتي في تلك الأيام بأن المدن تكتشف من عوالمها السفلية بحيث أنني هجرت في اليوم الثاني “مكاتي” وبت أغوص في أحياء الصفيح ومانيلا القديمة وأجعل ممن أتعرف عليهم/عليهن بالشارع أدلّاء ورفقاء، وكل ذلك في مدينة خطرة لدرجة مرعبة، كلّ متجر فيها  إن خلا من حراس مدججين بالأسلحة تعرض للسطو برمشة عين، في مدينة تجاور فيها أحياء الصفيح تجمعات الفلل والأحياء الراقية جنباً إلى جنب، في الأولى الفقر مكشر عن أنيابه بجوار الثانية المحاطة بالأسوار الشاهقة والأسلاك الشائكة والحراس المدججين كما لو أنها سجون عصية على الفقراء، وقبل أي شيء منيعة على العصابات والغانغستر وغير ذلك. وفي الفندق المحاط بالحراس والكلاب البوليسية كان على أي زائر يقصدني أن يخضع لتفتيش واجراءات أمنية صارمة، وحين مغادرته فإن الأمن يتصل بي ويطلب مني تأكيداً بأن كل شيء على ما يرام حتى يدع له أن يغادر.

بدا لي كل ذلك كخلفية لا تشوش على ما أعاينه في هذه المدينة القاسية، وما أعيشه فيها ضارباً عرض الحائط بالحيطة والحذر، وإن كان لي أن أستعيد أحداث ووقائع عشتها بمنتهى الثقة والحماقة، لتوجب علي تقديم الأضاحي والنذور وما إلى هنالك من طقوس متعلقة بالناجين من أخطار لعينة، لكنني سأجنبكم سرد ذلك، وأركز على ما هو متعلق بأوغستين، طالما أنها شكّلت ذروة تلك الأحداث، وتجلى معها الخطر بأعتى صوره، وتحوّل ما وصفته بخلفية، إلى واقع احتل المشهد كاملاً.

بالعودة إلى المقهى سابق الذكر، فإنني كنت جالساً أقلّب في كتاب ضخم هو عبارة عن انطولوجيا عن الأدب الفلبيني المكتوب بالانجليزية1، كنت أشتريته من غاليري ليس ببعيد عن الفندق، استكملت به أركان سعادتي وأنا أقرأه  كيفما أتفق، أفتح صفحة لا على التعين وأقرأ، أجد عنواناً أو اسماً يستوقفني فأقرأ القصيدة أو النص، وكلها لأسماء مجهولة تماماً، هذا إن كنت عرفت يوماً أي كاتب أو شاعر فلبيني من قبل.

لأدع ذلك، وأقول إن أوغستين التي ما كان اسمها أوغستين جاءت المقهى وقد كنت مأخوذاً بقصيدة “لم أدعُ النمور، يا أوغستين” لشاعر اسمه ريكاردو ديمتيلو يوظف فيها قصيدة وليم بليك “النمر” على طريقته الخاصة، لدرجة صرت أترجمها إلى العربية بقلم رصاص على الكتاب مباشرة.

وما أن رفعت رأسي عن الكتاب، حتى رأيتها تحدق بي وبسمة خفيفة طافية على وجهها، فأعدت دفن رأسي في الكتاب مجدداً متقياً عاصفة جمال لا تبقي ولا تذر، أو كما يقال في ألف ليلة وليلة رمقتها بنظرة أتبعتها بألف حسرة، وقلت من هذه المجدلية البرونزية؟ كيف لي أن أتجرأ وأنظر إليها مجدداً وهي كفيلة بدفعي للتحسر على عمري كاملاً؟

حسناً! استجمعت نفسي ورفعت رأسي نحوها فإذا بها تنظر إلى الشارع أمامها وبالتالي تجرأت على تملي وجهها جانبياً وطالعتني شامة أسفل وجنتها اليمنى تمركز حولها الكون أو ملامحها لا فرق! تحولت منطلقاً لتحري قسماتها التي أتضحت مجدداً مستقدمة ألف حسرة حين ألتفت نحوي، فعدت للنظر إلى شامتها منطلقاً منها نحو عينيها النجلاوتين وأنفها الأشم وفمها الريّان، وبدا أن شرودي بها نقلها من الابتسام إلى الضحك، فنبشت عن عبارة أبادرها بها فما عثرت إلا على أكثر العبارات ابتذالاً مثل الطقس حار اليوم أو من أي بلد أنت؟ لكنها توّلت الأمر قائلة:

– أيلول أجمل شهر في السنة!

هززت رأسي المبلل بالعرق موافقاً، وقد سمعت هذه العبارة لا أعرف كم مرة في هذه الزيارة، بينما قميصي يلتصق بي جراء تعرقي الغزير في هذا الجو الجميل، أو جراء زخة مطر ساخن غافلتني، فقلت لها:

– أنت أوغستين.. أليس كذلك؟

– أوغستين؟ من أوغستين؟

رفعت الكتاب وقرأت عليها من قصيدة ديمتيلو:

” لم أدعُ النمور، يا أوغستين

لم أدعها لزيارات عطلة نهاية الأسبوع وهكذا مناسبات.

قاسمتها السرير وأنا أعرف فروها المخطط

أنيابها والوثبة القاتلة.”

ضحكت غير مبالية بما سمعت، ولم أعرف ما إذا عنت لها القصيدة شيئاً وقالت لي:

– لا تصدق ما تقرأه!

– لن أصدق!

وعدت إلى الابتذال أو أكثر ما أكره من أسئلة، لكن فضولي كان قاتلاً:

– من أين أنت؟

– من كولومبيا.

قلت لها:

– كولومبية في مانيلا..

فقالت على الفور كما لو أنها سمعت هذه العبارة عشرات المرات:

– كما أغنية ستيغ!

وصارت تدندن English man In New York

سألتها:

– هل تسمحين لي بالانضمام إلى طاولتك؟

فأجابت بحزم:

– لا!

فصار قلبي يخفق ويلعن، إلى أن ضحكت بصخب، وأردفت:

– الأفضل أن نغير المكان ونجد طاولة في مكان آخر..

ولم تتنظر إجابتي، بل أرسلت رسالة من هاتفها، فإذا بسيارة تظهر أمام المقهى – لا أحد بمانيلا يستعمل الهاتف للمكالمات المكلفة جداً بل للرسائل النصية شبه المجانية وهذا يشمل أغنى من عليها – ومن ثم أخذنا السائق إلى حانة تتسع ربما لخمسمائة إنسان برحابة، لم يكن فيها سوى امرأتين وثلاثة رجال بدوا كما لو أنهم انتهوا للتو من مشاجرة وتوزعوا على طاولات متباعدة ليلتقطوا أنفسهم وبعاودا مجدداً. وهكذا جلسنا أنا وأوغستين، وكانت سعادتي حارقة متفجرة مع أننا بالكاد تبادلنا عبارتين أو ثلاث، وبدا أنها تفضل الغناء عن الكلام فما أن صدحت أغنية Black Magic Woman حتى قلت لها إنها عنك يا امرأة السحر الأسود، فراحت تغنيها باتقان مدهش وتهز رأسها معها. وهكذا أمضينا ساعتين بين صمت وغناء وشرب، إلى أن سكرت بها وبكؤووس التيكلا التي رميتها بجوفي واحدة تلو أخرى وأطفأتها بجرعات طويلة من البيرة، وقالت لي:

– هيا بنا!

فنهضت ومضيت أتبعها وهي تلتفت إلي بين الفينة والأخرى وتضحك. تبعتها لا أعرف إلى أين، ولا أردت أن أعرف، وكنت على جهوزية تامة للمضي معها حيث تشاء، ولو كان في ذلك هلاكي، ألا مرحباً بالهلاك معها.

لا أعرف كيف أصبحت في سريرها الوسيع، وأنا أتعرف على شامات جديدة تناثرت على جسدها المترامي، وبت لا أعرف البداية من المنتهى، وكلها بلا منتهى، وحين أوصلني سائقها إلى الفندق كنت مزكوماً برائحتها، آهلاً بحرارتها، منمّشاً بها.

حين صعدت إلى غرفتي وجدت أكثر من عشرين مكالمة فائتة من صديقي (وصديقي هذا سبب كل رحلتي إلى مانيلا، هو الذي درج على زيارتها ثلاث إلى أربع مرات في السنة لأسباب متصلة بعمله، وكان يسألني بين الفينة والأخرى أن أرافقه، إلى أن فعلت)، فقمت بقرع باب غرفته، وما أن فتح لي حتى بدا أن صخرة هائلة انزاحت عن صدره، وصار يسألني من دون أن يلتقط أنفاسه:

– أين كنت؟ لماذا لا تجيب على هاتفك!

ثم اتصل بهاتفه قائلاً:

– لقد عاد! كل شيء تمام..

أنهى المكالمة وقال لي:

– اتصلت بالمختار..

والمختار هو اللقب الذي أطلقته على شريك صديقي الذي يعيش في مانيلا منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو معادل لـ Minster  “الوزير” لقبه في مانيلا، المدينة التي تبدو معه أشبه بحارة وهو مختارها الذي يعرف كل شاردة وواردة فيها، وهذا الشعور جاءني منذا استقباله لنا بالمطار حيث تبينت أن جميع موظفي المطار يعرفونه، وصولاً إلى سائر مانيلا.

 لم يتطلب خلوص صديقي من حالة القلق اللعينة التي ألمّت به سوى إخباري له بما عشته مع أوغستين، ما نقله إلى البهجة وهو يقول لي:

– أنت بالنعيم وأنا أكاد أموت من خوفي عليك..

ليلاً كان علي تلبية دعوة عشاء رفقة صديقي والمختار، لكنني تلقيت اتصالاً من أوغستين وضربت لي موعداً في بار اسمه هافانا، فصار العشاء معهما نسياً منسياً.

 حين وصلت البار كنت أمام بناء كولونيالي قديم ضخم فيه حانات ومراقص ومطاعم خارجية وداخلية وبت أتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن حبيبتي الكولومبية، فإذا بي أراها في صالة صغيرة وقد اعتلت منصتها رفقة فرقة صغيرة تغني أغان لاتينية. حين رأتني أشارت إلى طاولة مقابلة لها تماماً.

لم تمض عشر دقائق استمتعت فيها أيما استمتاع بأدائها البديع، حتى بدا عليها ارتباك شديد، وساد الصالة جو مشحون، فالتفت إلى حيث كانت تنظر أوغستين، فإذا بمجموعة من الرجال العتاة، أربعة أو خمسة واقفين عند باب الصالة، ومن ثم توجهوا نحوي، وجلس واحد منهم بدا زعيمهم، بأناقته المفرطة، وجسده الرياضي الممشوق، وبذته الأرماني الرمادية على قميص وردي حريري، ومنديل باللون نفسه يطلّ من جيب جاكيته، وساعته الرولكس على معصمه الأيسر، وسوارة فرزاتشي على الأيمن، وكل ما يتطلبه مظهر الثراء والسلطة، ويتناغم ووسامته الآسيوية، وثقته المفرطة وحضوره القوي المربك، والرجال واقفين خلفه ككلاب متأهبة للانقضاض والنهش، تبينت منهم سائق أوغستين.

توقفت أوغستين عن الغناء وباتت الآلات الموسيقية تخمد واحدة تلو الأخرى، إلى انتهت بضربة درامز بدت كما لو أنها آذنت بالصمت. ربت على كتفي، ثم رفع يده لرجاله، الذين لم يفعلوا شيئاً سوى أنهم التفتوا نحو الحاضرين، فغادروا الصالة جميعاً، ثم تبعوهم ووقفوا في الخارج، ثم كلّم أوغستين بالتاغلو أو الاسبانية أو لا أعرف من لغات، فعادت إلى الغناء، وأحضر النادل قنينة ويسكي أحسست أنها ثلاثية الأبعاد، صب لي وصب في كأسه، وصافحني قائلاً:

– رودل!

وتجرع كأسه دفعة واحدة ممتعضاً من ايرادي اسمي، كما ليقول لي وهل تحسب أن هذا مهم؟ ثم ربت على كتفي، كما ليقول لي دعك من هذا واصمت ولا تظن نفسك نداً لي! أشار إلى كأسي فأخذت رشفة منه. وحين انتهت أوغتسين من أغنية غنتها باضطراب شديد، صفق لها صارخاً:

– برافو برافو..

وأشار إليها أن تكمل، متجرعاً الكأس تلو الأخرى، وهو لا يفعل شيئاً يشي بأنني موجود سوى صبه لي الويسكي.

مرّ وقت طويل ونحن على هذه الحالة، وكل شيء يزيد من اضطرابي، توتره وغناء أوغستين الذي أمسى رديئاً، وعزف العازفين المتراخي، وترقبي لما سيقوله، والسيناريوهات المتضاربة التي رحت أنسجها في رأسي، وقد بدا واضحاً جلياً ما تورطت فيه، فاتخذت قراراً حاسماً بصون ما أنا عليه من صمت وهدوء خارجيين، وهما كل ما أملك، ورحت أقوّي ذلك بمجاراته في الشرب، ورحت أعب الكؤوس التي يصبها لي، بينما غيّرت تعاطي على صعيد داخلي، ولجأت كما في كل مرة أشتت فيها اضطرابي حين أكون في موقف حرج إلى التفكير بأمر لا يمت بصلة لما أنا فيه، لكنني لم أنجح في ذلك، لا بل استبدت بي سيناريوهات مقتبسة من أفلام، متخيلاً أن يقدم رودل على كسر زجاجة الويسكي ثلاثية الأبعاد ويقوم بتشويه وجه أوغستين لترهيبي أو أن يطلب من جميع من في الصالة التعري بمن فيهم أنا كما فعل زعيم العصابة التافه في فيلم “الوداع الطويل”، وحين حاولت استرجاع شيء من القصائد التي قرأتها في كتاب الأدب الفلبيني، تخيلت أن يقوم بتمزيقه واطعامي أوراقه وغلافه، ويقوم بحشوي بأورق الكتب طالما أنني أحب القراءة كما يفعل “اللص” أو زعيم العصابة بالعشيق صاحب المكتبة ويجعله يموت بما يعتاش منه في فيلم بيتر غرينواي “الطباخ، اللص، زوجته، وعشيقها.”

ويبدو لي الآن أن هذا النزوع نحو الأفلام طبيعي جداً في ظل انعدام خبرتي في مواجهة هكذا موقف مع شخص ما كان له من وجود بالنسبة إلي إلا في الأفلام، وهو زاد من صواب اعتقادي هذا حين نطق أخيراً بجمل كاملة، من النوع المافياوي المحتكمة على قدرٍ متساو من الطرافة والرهبة. يمكن إطلاق الصفة الأولى عليها إن اكتفى المنصت إليها باعتبارها مجازات أو أفعال لا يمكن أن تكون حقيقية، لكن الرهبة وللدقة الهلع فهذا ماثل جراء حقيقة أن من تجلس معه سيحول الأقوال إلى أفعال وهو قادر تماماً على ذلك وقد أقدم عليه مراراً، فقد قال لي “سأجعل خصيتيك لوزتيك” و”سأفتت قضيبك وأدعك تسفه وتتنشق نثاره” وأشياء من هذا القبيل أترجمها الآن بتصرف، إلا أنها بحق طريفة، أظهرت مخيلة إجرامية خصبة، سرعان ما باتت تتراءى لي بأنها مجرد ثرثرة، ربما لأطمئن نفسي! وبت أرى مونولجه استعراضياً أيضاً، لست في وارد استعادته وكله متمركز على أنه مسح وسيمسح عن وجه هذه الأرض البائسة من يقترب من حبيبته، وأنني في طريقي لأصبح ممسحة وخرقة!

المدهش برودل بأنه لم يقرب أوغستين بكلمة، لا بل إنه كلما نظر إليه ابتسم، لدرجة أحسست بأن الأمر متكرر ولست سوى واحد من ضحاياها الكثر، ولتتخطى كونها عشيقته إلى حقيقة أن غفرانه حكراً عليها، لا بل إنه لم يعرف غفران الخيانة إلا معها فقط لا غير.

تسرب الملل إلي نعم، وبات أشد سطوة من الخوف لدرجة كنت سأقول له: وماذا بعد؟ وبدا أن حالتي هذه ساهمت فيها أوغستين وفرقتها إذ عاد صوتها والموسيقى إلى اتساقهما، وصارت تغني كأن شيئاً لم يحدث.

وجاءت النهاية، نعم جاءت بتدخل خارجي، ويد تربت على كتف رودل، يد أعرفها، إنها يد المختار، وهو يخاطبه ضاحكاً، ولينهض رودل ويعانقه بصخب صارخاً His Highness The Minstar  “صاحب الجلالة الوزير” وليمضي بعد ذلك نحو أوغستين التي احتلت وجهها ابتسامة عريضة وتوقفت عن الغناء وقفزت نحوه مبتهجة بحضوره.

وانضم إلينا وقال لرودل:

– هل تعرّفت على صديقي.. واو شيء جميل..صحيح أن الدنيا صغيرة..

ثم دار بينهما حديث طويل بالتاغالو، لم أفهم شيئاً منه، والمختار يستخلص الضحك من رودل كلما اكتسى هذا الأخير بملامح القسوة والجدية، إلى أن أمسكني المختار من ذراعي وأنهضني معه وقال لي:

– دعنا نذهب..

وحين استشعر بأنني قد ألقي نظرة على أوغستين أو أودعها أو أقدم على أي فعل، دفعني أمامه، وحين وصلنا الباب يبدو أنه خاف من أن ألتفت، فدفعني دفعة أقوى جعلتني خارج الصالة، وحينها شبك ذراعه بذراعي وصار يستحثني على مجاراة خطواته المسرعة وهو يكيل لي شتى أنواع الشتائم التي يذخر بها قاموس بذاءاته الشامي، وحين قابلنا صديقي رأيته يمجّ سيجارته بعصبية وقد ظهر جلياً لي بأن قلقه أعاده إلى التدخين الذي أقلع عنه منذ سنوات.

انشغلا بحديثهما عني! وأنا محتفظ بصمتي كما التلميذ المذنب الذي يناقش مصيره أساتذته بينما هو معاقب ومرمي في المقعد الخلفي، وأول ما طالب به المختار أن يتدبر لي صديقي أقرب حجز متوفر، وصديقي يسأله:

– ألا ينتظر الأمر يومين؟

والمختار يقول:

– غيّر تذكرته ..احجز له واحدة جديدة.. الآن يعني الآن!

وما أن وصلنا الفندق، حتى قال لي المختار:

– أحضر أغراضك فوراً..

وأنا أنفذ ولا أعترض، وحين عدت إلى السيارة، بدا المختار مسترخياً، ولم أتأخر في معرفة السبب فقد وجدا لي مقعداً على طائرة ستقلع بعد ساعتين تقريباً، وهكذا انطلق متجهاً إلى المطار. قال:

– لم تجد امرأة في مانيلا إلا لورنا .. لا حول ولا قوة إلا بالله

يضحك ويردد وهو يقود السيارة كما لو أننا نخوض سباقاً:

 لا حول ولا قوة إلا بالله..

– عندما تصل دبي اذبح قطيع خرفان.. والله كتب لك عمر جديد.. لورنا! لورنا يا مفتري يا عكروت..

ويضحك ويردف:

– لورنا ورودل وما أدراك ما كان سيفعل بك هذا الأخير.. الله بحبك.. لك أنت أكثر إنسان محظوظ بالعالم..

سمعت كل ذلك وأنا محتفظ بصمتي وكلما نطق باسم لورنا أصححه في سري بـ “أوغستين، رفقة إحساس التلميذ المذنب، إلى أن بادر صديقي القول:

– طيب وماذا سيفعل أمام امرأة بجمال لورنا؟ لو كنت محله ماذا كنت ستفعل؟ ستسأل عنها وتتأكد من أنها ليست عشيقة غانغستر أو أي من أصحاب النفوذ ومن ثم تنط عليها؟

لم يجب المختار، وأنا بدوري تشجعت وقلت:

– يستحق الأمر المغامرة يا مختار!

وما أن نطقت بهذه العبارة حتى أمطرني المختار بوابل من المسبات والشتائم وقال:

– وكنا بالمرة خضنا مغامرة إعادتك بتابوت..

كل ذلك لم ينجح في  إظهار حجم ما كنت معرضاً له، وتحولت قصتي هذه إلى حديث شيّق لصديقي عن مغامراتي، وسمّيت ما حصل معي بـ “الوثبة القاتلة” وأنا أستعيد قصيدة النمر وأوغستين متناسياً أمور كثيرة أخبرنا بها المختار قبل أن أستقل الطائرة، والتي استيقظت جميعاً الآن وأنا أسمع صوت أوغستين بعد ثماني عشرة سنة، وهي تحيي ما مات في داخلي من سحر ومغامرة، رفقة خوف فاتتني معايشته معايشة لائقة، مستعيداً جمال أوغتسين المدمر. ولتنتهي مكالمتها بإخباري بمقتل رودل ممزقاً بعشرات الطلقات منذ أكثر من ثلاث سنوات، فما تمالكت نفسي، وأنهيت المكالمة، وغرقت في نوبة بكاء عارمة، وبللت نحري الدموع، عاجزاً عن تبيان ما إذا كنت أبكي رودل أم العمر الذي مرّ سريعأً، أم صديقي الذي ما عدت أعرف عنه شيئاً، وأحداث حزينة كثيرة تحجّرت فيها دموعي، دموع نمر تساقطت أنيابه، وما عاد في وارد قفزة قاتلة أو غير قاتلة، بل بات بالكاد يمشي متلفتاً حوله، يعقم كل شيء لئلا ينال منه فايروس تافه.

________________________

1- The Likhaan Anthology of Philippine Literature in English from 1900 to the Present

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.