البحث عن الفايروس المفقود 2
العدد 254 | 12 نيسان 2020
زياد عبدالله


 

حين كانت الكتابة عن الأفلام عملاً يوماً، يتطلب مني مشاهدة كل ما يطفو على الشاشة، بما يوفر مادة انتقائية لصفحتي السينمائية في جريدة “الإمارات اليوم”  وهي تتطلب مني الكتابة عن السينما والأفلام لخمس مرات في الأسبوع، وعلى مدى سبع سنوات (2005 – 2012)، وفّرت لي الجريدة بالتعاقد مع سينما في بر دبي فرصة مشاهدة أي فيلم معروض، مع إمكانية توفير عرض خاص في حال تعذر علي حضور الفيلم في تواقيت عروضه الجماهيرية. لم ألجأ إلى هذا الخيار الأخير سوى مرة أو مرتين، إذ كنت قد نظمت وقتي بأن أبدأ المشاهدة مع أوائل العروض أي في الثانية عشرة ظهراً، وهو توقيت غالباً ما تكون فيه الصالات فارغة في أيام الأسبوع، وهكذا شاهدت مئات الأفلام في صالات تحتوي مئات المقاعد ما من مقعد مشغول فيها سوى الذي أجلس عليه!

كان الأمر أشبه بعنوان كتاب للشاعر العراقي الراحل مهدي محمد علي “سماع منفرد” في لعب حصيف على ما يعرف بالعزف المنفرد، إذ تحوّل العرض السينمائي لفيلم إلى عرض لمشاهد واحد فقط لا غير هو أنا، ما حوّلني إلى “مشاهد منفرد” وليترافق ذلك مع تهويمات نفسية عجيبة، وأنا أجابه وحيداً شاشات هائلة الحجم مدججة بكل العتاد التقني من “دولبي” وصوت محيطي، بما حوّل الأفلام التي كنت فيما مضى أشاهدها في شرود إلى مصدر تحفيز وإثارة هائلين، مع قدرة عجيبة على تصعيد الأدرينالين. أتذكر مثلاً فيلم 28 Weeks Later وأنا أشعر بأن المصابين بذلك الفايروس اللعين يلاحقونني وأن عليّ أن أهرب وأركض في الصالة، الأمر الذي لم يحصل لي أبداً حين عدت لمشاهدة 28 Days Later  في البيت على مشغل دي في دي، وأن انفجار المقهى في فيلم ألفونسو كوارون Children of Men جعلني أرتجف هلعاً، وأنا أتعقب آخر امرأة حامل في هذا العالم. وثمة فيلم تشويق لا أتذكر عنوانه تحتجز فيه عائلة في غرفة فندق يحتوي على الكثير من شرائط الـ في اتش اس، والتي تصوّر جميعاً الفظائع المرتكبة في الغرفة ذاتها… وغير ذلك الكثير والكثير جداً، مما حوّلني إلى شخص أدريناليني، تتجول في شراينيه سيناريوهات عن مفاجآت غير متوقعة، تدفعني وأنا أقف بسيارتي على إشارة حمراء أن أقفل الأبواب بمجرد اقتراب أحد ما من السيارة، متخيلاً بأنه سيقدم على فتح الباب وطعني بعدد لا متناه من الطعنات.. فكما في الأفلام التشويقية تندلع الأفعال فجأة ويمكن استدراك الدوافع لاحقاً، ومعادل ذلك واقعياً سؤال مشروع مفاده: وماذا تفيدني الدوافع إن كنت أنا من سيقضي نحبه!

قد يكون الأمر مضحكاً وحقيقياً في آن معاً، وإن كانت حقيقيته لا تنفي طرافته، وأنا أصارع تهويمات لا وجود لها، لكنها من آثار الإيهام السينمائي، أو اجتراح واقع موازٍ ينتصر على الإدراك والوعي، بما يشبه إلى حد بعيد حالتي وحالة أغلب من هم على هذا الكوكب، من التهويمات المترافقة مع فايروس كورونا، فحقيقته لا تنفي طرافة الأحوال التي توصلت إليه البشرية، وليبدو القول بأن الأمر أشبه بالأفلام تحصيل حاصل، إلا أن فعل مشاهدة الحاصل بستدعي تهويمات كثيرة والأمر لا يتعدى ملازمة البيت كما هي ملازمة مقعد في صالة، وليبدو الأمر مفتوحاً على احتمالات غير منطقية كما هو الخوف من أن يهمًّ أحد ما بطعني من غائب علمه، كذلك هي  الإصابة بهذا الفايروس الغامض، إذ يبدو التعقيم والكمامة كما إقفال أبواب السيارة استعداداً وقائياً في مجابهة خطر غامض، فالعلم لم يتوصل بعد إلى فهم قدرته على الفتك سوى أنه ينال من كبار السن بأكثر من الفئات العمرية الأخرى، وهذا عرضة للأخذ والرد، كما كل شيء يحيط به، والغموض هنا عامل أدريناليني، والانفتاح على شتى التوقعات عنصر تشويقي تمارسه بامتياز المحطات الإخبارية، فقد أمست متعطشة للمزيد بحيث ما عادت تكتفي بعداد الموتى والإصابات، إذا لابد من عناصر أخرى متوفرة – للمفارقة – في الواقع، تضفي على المشهد مزيداً من التشويق: مدن خالية، ووجوه طواقم طبية حفرت الكمامات أخاديد في وجوههم، وتدافع وهستيريا السوبرماركت وأوراق التواليت، وتوفر شتى أنواع الكذب والهرطقة على وسائل التواصل الاجتماعي، والأجواء القيامية ونظريات المؤمراة، والخفافيش التي يقال أن الفايروس انتقل منها، والتي بدورها تعرف جيداً أن تعيش في العتمة، وهكذا أحاطت فايروسها بالعتمة أيضاً.

لا أتذكر أين قرأت أن صالات السينما فارغة لأن المشاهدين منشغلين بمشاهدة الواقع الفيلمي الحاصل حالياً، وهذا حقيقي أيضاً، وللواقع أن ينتصر على الدوام كونه واقعاً وليس صوراً متلاحقة على شاشة، فالواقع  – كما أخبرنا منذ زمن طويل أندريه بازان – ليس هو الفن، ولكن الفن الواقعي يخلق جمالية لا تنفصل عن الواقع، ولعل هذه المقاربة تمتد الآن لتشمل كل الذي ما كنت آخذه على محمل الجد سينمائياً، أي أفلام الإثارة والتشويق المعتمدة على سيناريو مستقبلي قيامي، لها أن تكون محتشدة بالزومبي والفامبيرز، أو تلك التي يتحول فيها البشر إلى زومبي جراء فايروس غامض، لتبدو غير منفصلة عن الواقع، وكلمة السر هي الفايروس، وما يمكن لفيروسات مستقبلية أن تفعله بنا، ولتبدو أفلام وروايات الزومبي فناً طليعياً، وهذا توصيف ما كان لي أن أتخيل استخدامه يوماً.

ما دمت لم أزل مشاهداً غير مصاب بالفايروس فإنني أفكّر بالاقتصاد، فالمؤرق هو القادم اقتصادياً، أو الذي بات يتبدّى اقتصادياً، بما لا ينسيني بأن دوافع صناعة الأفلام القيامية سالفة الذكر اقتصادية، وهي غير معنية “بخلق جمالية لا تنفصل عن الواقع” بل بتحقيق الربح وتصدر شباك التذاكر وأن يحظى طاقم العمل بأجور مجزية، وما إلى هنالك مما يشكّل دافعاً اقتصادياً، وهذا لا يؤكد إلا أن الاقتصاد دافع للمخيلة أيضاً، إذ إن الاقتصاد بوابة كل الفضائل والشرور، وعلى صعيد واقعي، فإن الجوع كفيل بتحويلنا إلى زومبي، والفاقة إلى عبيد، والوفرة إلى أسياد ومستقلين، والمكون الرئيس لحركة التاريخ -كما يجدر ألا يخفى على أحد-  هو الاقتصاد، لكن ووسط ذلك فهناك مساحة متاحة للكوميديا، حيث أن عالمنا اليوم محكوم بثلة من المهرجين، تابعوا على سبيل المثال تصريحات ترمب منذ بداية الأزمة وحتى الآن وستصابون بالجنون ما لم تتعاملوا معه كمهرج، من دون أن يرتقي إلى مقام وحكمة المهرج في التراجيديات الشكسبيرية إذا إنه لا يحتكم على أدنى قيمة أخلاقية أو فكرية، والصين في سياق متصل توغل أكثر باستعراض إعجازها بعد أن نجحت في نشر الفايروس في أرجاء العالم، وماكرون يتفاجأ من أن أغلب الباحثين في المعهد الاستشفائي في مرسيليا من سورية ولبنان والمغرب العربي وأفريقيا، أما نحن سكّان العالم الثالث فلنا أن نشطف شوارعنا ليل نهار، حالنا حال غيابنا إلا فيما ندر عن أفلام الخيال العلمي، إذا لا وجود لنا إن حلّ وباء في هذا العالم أو هاجمه الفضائيون أو أي شيء من هذا القبيل، فأقصى ما نملكه هو الدعاء والشطف، وفينا ما يكفينا من الفايروسات المستعصية عن الفهم والعلاج منذ مئات السنين من ديكتاتورية واستبداد وظلامية ووصاية دينية وأخلاقية.

بالعودة إلى فيلم العائلة التي تحتجز في غرفة فندق وشرائط الـ “في اتش أس” التي تصور الجرائم المروعة التي ارتكبت في الغرفة، فإنني سأنتقل إلى مشاهدتي فيلم مايكل هنكه Cache أو Hidden في صالة مكتظة بالمشاهدين وهو يبدأ من لقطة ثابتة تمتد ربما لخمس دقائق أو أكثر لشارع لا يحدث شيء فيه سوى مرور قظة أو عبور رجل على دراجة، ولتنسحب الكاميرا “زووم أوت” فتطهر شخصية الفيلم الرئيسة تشاهد شريط “في اتش اس” يصوّر ما تراه الشخصية من نافذتها. وهذا تهديد يتكرر، إلى أن يحدث انتحار مفاجئ يأتي بعد لقطات طويلة وإيقاع مفرط البطء، انتحار يأتي بلا أي مقدمات لمن تتهمه الشخصية الرئيسة بأنه هو من يهدده، يخرج سكيناً صغيرة وينحر بها عنقه، حينها وأثناء العرض أصيب كل من في الصالة بحالة هلع عجيبة، وعمَّ الصراخ، لدرجة فكّرت بأن على أحد – ربما هنكه نفسه – أن يفعل شيئاً، أن يخرج على الملأ ويطمئن المشاهدين، إلا أن الفيلم تواصل طبعاً وتكشّف كل شيء من دون أي تدخل خارجي، بما يشبه ما نحن عليه، أو ما أنا عليه أيضاً بعيداً عن كوني المشاهد المنفرد، فما نحن فيه لا تفرد فيه، فالعزلة هبة وقائية، والكل في سماع منفرد ومشاهدة منفردة على أمل ألا ينال منا ما يُسمع ويُشاهد!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.