الأيام التي تتداعى!
العدد 218 | 05 أيلول 2017
سومر شحادة


تستقبل الصباح الدامي بابتسامة مريرة، تخرج من المنزل ونظرك إلى الأسفل. تمضي إلى عملك خجلًا من بقائك حيًا، ومقبلًا على الحياة في الوقت ذاته، لا تتحدث في شؤون الثورات والطوائف، وتحيدُ بنظرك عن صور العنف وعن الجائعين ومصابي الحرب والوحيدين، أمثالك. توافق الجميع على ما يقولونه، وتبلع أفكارك الشخصية، تعرف تاريخ الجميع، لكن ثمة ما هو أشدّ إلحاحًا يمنعك من الدخول في سجال مع أحد. الجميع على حق، تلك القاعدة السحرية التي تؤمّن عودتك إلى المنزل كلّ يوم، في بلد يضجّ بالسلاح، وبالقتل الذي يرتدي الأفكار.

ترى امرأة تبكي في شارع بغداد، تقترب منها، ثم تبتعد بسرعة، خائفًا من أن تسألك حاجة أنت عاجز عن تلبيتها، تهرب مجددًا من عجزك المديد عن فعل شيء عدا الكتابة التي بدأتَ تشك في جدواها وذلك أمرٌ مصيري بالنسبة لك إلى درجة أنّه يأخذ بعدًا وجوديًّا. لكن ما يؤرقك، بالفعل، هو كون المغامرة أصبحت في البقاء داخل البلد الأعجوبة لا في الرحيل عنه، حيث لا فرق، هنا، بين الجنازة والعرس، بين اللص والسجّان، بين ساعي البريد والعاشق، بين البيدق ورقعة الشطرنج. ما يؤرقك، أشدّ وجعًا من الكتابة، فالذين غادروا تركوا ذاكرتهم بيننا، وأنت الآن، تسير في الشوارع مثلما يسير الطائر فوق الخراب!

لا تعرف مسؤولًا واحدًا لكي تطرق بابه في المحن التي تدفعك إليها الإقامة في بلد تحكمه الأهواء، تسألك صديقتك على الفيسبوك عن سبب قلة ثقتك بنفسك، فتسألها عن سبب سؤالها، بدلًا من الإجابة. رغم أنّ السؤال لم يقلقك، بقدر ما أقلقتك الإجابة والتي بقيت، بدورها، في داخلك، طالما لا تعرف أحدًا خارج البلد، أيضًا، ليسأل عنك، ما القيمة التي ستضيفها إلى الخراب العام؟ تَعلّم أن يبقى رأيك لك وحدك. والأفضل، ألّا تملك رأيًا على الإطلاق.   

***

تفكّر، وأنت تخبئ في جوفك، فكرة لا تلائم مكان جلوسك، ما الذي دفع الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف للعدول عن فكرة السفر، عندما أصبح ذلك ممكنًا، وذلك بعد مكالمة ستالين معه، أية هواجس دفعت بولغاكوف للرد على تلميح ستالين، بالسماح له بالهجرة، بالقول: ” لقد فكرت طويلًا في المدة الأخيرة: هل يستطيع كاتب روسي أن يعيش خارج وطنه؟ ويبدو لي أنّه لا يستطيع”. كيف أرسلَ رسالة يطلب فيها السماح له بالسفر، ثم يعدل، على ذلك النحو المباغت والغريب عن فكرة مسيطرة مثل مغادرة روسيا؟

الرأفة على الناس الذين يشفقون عليك بدورهم، هي التي قيدتك بذلك السحر المطمئن، الجميع هنا، يشفق على الجميع، حتى أنّ صديقي بات يرى القتل نوعًا من الشفقة!

***

تشعر بالغبطة لاقتراب النهايات، في الوقت نفسه أنت خائف جدًا، لقد اقترنت لديك الطمأنينة بالخوف، بشكل نهائي، فالحياة في الظلّ، كشفت لك ثنائيات لا معقولة. وها أنت تجسر على كتابتها، على الرغم من ذلك. لم تعد تلفتك العناوين التي تملك أضدادًا مركبة غصبًا، إذ لم تعد تعرف ضحكًا خالٍ من المرارة، أو فرحًا بريئًا من الحزن، وتجد في اسم رواية غالب هلسا “الضحك” اسمًا خلابًا، لأنّ فيه تكثيفًا هائل الدلالة.

تبدو الكتابة، الآن، تفريطًا بالمسلمات جميعها. وإلا، كيف لبلد (عمره سبعة آلاف عام) أن ينام مهددًا، ويفيق منهوكًا من أخبار المجازر التي امتدّت على كامل مساحته؛ مجازر دموية، وأخرى مجازية لكافة أشكال الحياة. وإن كُنّا نجونا من الموت، كيف سننجو من أيامنا التي تتداعى؟!

* * *

ما الفرق بين بلدٍ منهزم،

وسوط يهوي على الأصابع؟ 

أكتب عنكِ بقلب مهترئ،

ورأسٍ مسكون بالجثث.

*****

خاص بأوكسجين


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"