استنتاجات مجنونة …
العدد 162 | 27 تشرين الثاني 2014
رعد الفندي


تركه الجلاد مقيدا على كرسي صلب لساعات طويلة، طالبا منه معرفة لون الجرذ الذي سيخرج من جحره في لحظة ما، بعد أن وعده بالحرية فيما لو نجح في تلك اللعبة. عانى من أمرين صعبين جدا رافقا مراسيمها، أحدهما كان قطرات الماء المتساقطة على أم رأسه بأوقات منتظمة من سقف المحجر الانفرادي البالي، والآخر الظلام الذي يعم المكان ليلا، إلا من ضوء خافت ينبعث من مصباح أحمر، يتدلى من سقف الحجرة، قد يظنه الرائي للوهلة الأولى حبل مشنقة مهيأ على الدوام، يؤرجحه تيار الهواء الداخل من فتحة التهوية الصغيرة جداً والتي تنبعث من خلالها أشعة الشمس كل شروق لدقائق معدودة، يتراقص بداخلها غبار فضي، كأنه معراج للأرواح المعدومة.

باءت محاولاته المتعددة لإخراج الجرذ من جحره بالفشل بعد أن حاول تقليد نميمه عدة مرات، أضعف التركيز عينيه، شعر بالملل، بصق عدة مرات إلى الأعلى، كأنه أراد إيصال اللعاب إلى وجهه، لعلها الطريقة الوحيدة، المثلى، لتحقيق ذلك من باب الإهانة والقنوط ، لا يقصد بها جسده، بل إنسانيته، بعدما هزأ العنكبوت منه مرتين، الأولى عند تبختره في إحدى زوايا سقف الحائط الذي ينتهي فيه جحر الجرذ، والأخرى حينما اقتنص بعوضا متطفلا قرب شبكته الماكرة.

كان عليه التركيز على الجحر الصغير الواقع على يمينه وهي معضلة أخرى تكاد تكسر رقبته، ابتكر لنفسه لعبة حوار المجانين ليكسر ملل المراقبة، مقلدا صوتين مختلفين بآن واحد: 

– صوت أجش: بم تذكرك الجدران الحمراء؟

– صوت رخيم: بطفولتي عندما أصبت بمرض الحصبة، حينها ألبسوني بزة حمراء، حتى فر مني الجميع!

– صوت أجش: ماذا تستنتج من ذلك؟ 

– صوت رخيم: لون الموت أحمر! 

– صوت أجش: بل هو! أردت منك قول ذلك منذ البداية. بالمناسبة، لا أعلم سبب نسياني كل الأشياء الجميلة، لم تبق في ذاكرتي، سوى الآلام، صراخ سمية وبلال، الخنساء، زينب مع السبايا، امرأة عمورية، هيروشيما، صبرا وشاتيلا، ملجأ العامرية، ختاني، خلع ضرسي من دون مخدر، عويل أمي الأخير……  

– صوت رخيم: لعل دماغك استفاق من غيبوبته، بعد أن لاحت له فكرة الموت!

– صوت أجش: مَن قال أن وقت الموت لحظة؟ 

– صوت رخيم: بالتأكيد كان وقتها حيا يرزق، يشرب القهوة، يدخن الغليون بكل روية في مكتبه، نظيفا، معطرا، ينظر نحو مؤخرة خادمته ..

 بصق على الأرض، شاتما صاحب المقولة، كرر ذلك عدة مرات بنبرة غليظة…

 غربت الشمس، بدأ الظلام الدامس يحاصره، لم يبق سوى النور الأحمر  للمصباح الخافت، عاد إلى حواره الجنوني بصوته الناعم مرة أخرى:

– انه يلعب معنا لعبته الخبيثة، الظلام  بيت الموت، والحمرة بزته!

– صوت أجش: بالتأكيد، اعلم جيدا أن بعد الظلام تظهر الصور، هذا ما اقتبسته عندما تطفأ أنوار السينما، استدركت أمرا للتو! ما علاقة الظلمة بالصور وتحفيز الذاكرة؟ صورة تعقبها صور كشريط سينمائي لفلم هندي قديم حتى داعبني فكري بنكتة، قد يكون صاحب اللعبة”ميتاب” …. 

 قهقه من كل قلبه حتى دمعت عيناه من دون أن يغلقها لئلا يخرج الجرذ في تلك اللحظة، وبنبرة صوت أكثر رخامة أكمل لعبة الحوار:

– نعم، لم تكن تلك الصور السريعة سوى أفلام بالأسود والأبيض، مصبوغة بالظلام، تداهم فكري، بل تركله بلا رحمة، لاحت لي مساكن من الصفيح يقطنها أناس يتدفأون على مواقد الخشب المبتل في جو بارد، سرقوا وقوده من بئر نفطي جوار سكناهم، الحارس فاسد، نائم، لا يملك سوى هراوة في ضميره ..

– صوت أجش: نعم رأيت الدخان المنبعث من مصانع الموت المنتشرة، شممت رائحة التوابيت، السلعة الأكثر رواجا هذه الأيام، حتى القبور أصبحت عقارا، تباع وتشترى، انتبه جيدا، قبل أن تموت يجب أن يكون لك قبرا مسجلا في الشهر العقاري!

– صوت رخيم: لا، لا عجب، هي الحقيقة المرة التي رأيتها أيضا في داخل المحجر، لم أرها في الخارج، نعم كل الصور المنقولة عبر قابلو الظلام حقيقة، أرأيت رجلا كتب قصيدة نالت إعجاب ملك الظلام؟ حروف وكلمات، أحاسيس صادقة، ينحتها الظلام في كهف طمره جبل الزيف المصبوغ بالنجيع، قتل على حضيضه ثلة من الأحرار، وفي قمته المعانقة لخيوط الشمس ترفع الرايات الموشحة بنياشين الكذب والخداع، سأقول مقولتي الآن التي لم يستنتجها غيري وقد لا تعجب الجميع: يصنع الظلام الصور الصادقة من رحم الحقيقة لأنه الوحيد الذي توحدت فيه جميع الماديات لبناء صبغته، إذا كنت تسأل عن الدليل، أغمض عينيك لحظة وسترى صدق ما أقول!

–  صوت أجش: أوافقك الرأي تماما، وما أحلام الأمل الملونة إلّا من صنع الظلام المكبوت داخل عقولنا الصغيرة! كما أنك تعلم جيدا ؛ أن جميع أرحام الخلائق مظلمة، لتلد في قبوها حيوانات حية، متكاملة الخلقة، وعندما تموت يمسي منظرها قبيحا، مخيفا تحت النور، وحال طمرها في غياهب الأرض، تغدو محترمة، توقر أجداثها بالزهور الجميلة المعطرة ..

– صوت رخيم: رجاءً، دعني أقاطعك هذه المرة، سوف أقحمك بجملتي البسيطة هذه لنصرة الظلام، أنشرت يوما سرا لك في الضوء، لم يفش؟ 

– صوت أجش: بالتأكيد لا، مع ذلك، لكن ألا تتفق معي، أن الظلام قاسي جدا، أكثر ألما من سوط الجلاد، يتجاهل ذكاءك عندما يتلاشى فور بزوغ النور!

–  صوت رخيم: لكن عن أي نور تتحدث خارج تلك الزنزانة الحقيرة! ضوء كاذب، أطياف قزحية مزيفة الألوان …

– صوت أجش: نعم، أنا معك، أتذكر أبي؟ حينما أبقى على التلفزيون الأسود والأبيض، قال بصوته الرخيم: الألوان في التلفزيون الملون ليست حقيقة، مصطنعة، الدليل أنني أرى الآن محمد علي كلاي مختلفا، الأنوار والماكياج جعلا منه رجلا آخر ..

قهقه، تارة بصوت ناعم وتارة أخرى بنبرة خشنة ثم أجهش بالبكاء،ما لبث أن استدرك بصوته الناعم:

– ألم يخطر على بالك شيء عجيب؟

– صوت أجش: ما هو؟

–  صوت رخيم: أترانا وقد اتفقنا في الظلام على جميع الأمور! لِمَ  لا يحدث ذلك في النور؟ كالعاشقين الذين لا يمارسون طقوس عشقهم على أرائك الحب إلّا تحت خيمة الليل . 

– صوت أجش: ها، ها، لا أملك جوابا شافيا!

سكت قليلا، ما لبث أن تحدث بصوت أكثر غلظة مغاير للصوتين الآخرين:

– ماذا تريدان من الشمس أن تفعل لأرض جرداء إلّا من السعدان، وما ذنب الأسفار المؤولة من وعاظ الحكام والجهلة والمارقين، حسبتكما مَن ((يحرفون الكلام عن مواضعه)) لتجعلا الحق باطلا، والباطل حقا ..

أراد إكمال الحوار، لكن مصراع الباب انذره بدخول الجلاد، سبقه عطر سيجاره والأنوار المنبعثة من الخارج، خرس، ومازال نظره نحو الجحر، رغم شعوره بتلاشي كل الصور الحقيقية فجأة، صاح به الجلاد ساخرا:

– ها… قل لي ما لونه؟

– لم يخرج حتى الآن!

–  لا … خرج مرتين!

– كيف؟

–  عندما تثاءبت مرتين …

________________________________

كاتب من العراق

الصورة من أعمال الفنانة والممثلة السورية نجلاء الوزة التي انتحرت في جنوب إفريقيا.

*****

 

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: