استغماية
العدد 259 | 11 أيلول 2020
مالك م. رابح


 

“بابا؟” تصرخ ابنتي الصغرى من خلف الصحيفة. كنت أضيع الوقت في حل الكلمات المُتقاطعة وأكل الفول السوداني في انتظار أن تعود زوجتي من الخارج، وقد لَبدت في رأسي أغنية قديمة من الستينيات كبقعة قهوة على قميص أبيض، وهاهي الأغنية تكمل رحلتها في الغوص ثم تعود بزَهو لتطفو من جديد. فيلم لفاتن حمامة وعمُر الشريف (معكوسة)، ثلاثة عشر حرفًا. “بابا؟” شَدّت بنطالي من عند ساقي اليُسرى، “هات لي مكان أستخبى فيه يا بابا؟” قُلت لها “روحي استخبي تحت حوض المطبخ”. شكرتني بابتسامة حلوة وعُدت أنا إلى صراع في الميناء ومِساه وصباحه بيسألني عَليك.

إذا كنت تعتزم المسير فالنسيان على بُعد خطوات قليلة منك وأنا أنسى وأنسى. حتى في المرات التي كُنت أقسِمُ فيها مُخلصًا ألا أنسى، كُنت أنسى. ثم يحدث أن يحدث شيء، فأتذكر، كأن أركن سيارتي وأنا في رحلة طويلة إلى جانب طريق لأفرد الظهر، ثم أركب السيارة وأنسى. جاءَتني ابنتي الكُبرى وسألتني بصوت خفيض خبّيت “هاجر فين؟” كانتُ تُشبه أمها بذيل الحصان من شعرها والتوقُّد في عينيها البنيتين. غَمزتُ لها وقُلت مُقلدًا نبرة صوتها دون أن أشعر بذنب “في المطبخ، تحت الحوض”. هزّت رأسها ثم خطت مُختالة نحو فريستها.

بعد قليل عادت تلومني “مش تحت الحوض يا سي بابا. مش تَحت الحوض؟” وأنا أوقفتُ السيارة وبدأتُ أطقطق ظهري.

أتعرف الولد الذي كان يهجر الاستغماية في وسط اللعب ويروح للبيت دون أن يُخبر بقية المُشاركين وهو يعرف أن أحدهم قُد يمضى سواد الليل يبحث عنه؟ أنا هذا الولد ولكي يسمحوا لي باللعب معهم تلك الليلة جاءوني بمُصحف قَديم وقالوا احلف بأنك لن تخوننا. كُنا مساء الجمعة بعد شم النسيم وكُنت أريد اللعب فحلفتُ لهم على المُصحف أني سأظل في اللعب حتى النهاية.

 ” لحد الأخر؟”

“لحد الأخر يا جماعة وتربة أمي.”

في كُل دور، وبسبب جسدي الصغير واكتفاء أبي بهزة رأس إذا ما رأى ملابسي وَسِخَة، كُنت أنتظر حتى ينفض الجمع ثم أنزل تحت السيارة المائة ثمانية وعشرين مِلك الدكتور إسماعيل مُدير مُستشفى القرية في رقدتها أسفل مصباح عمود الكهرباء المُحروق على بُعد أمتار من الولد المُغمّي عينيه يَعدُ من واحد لعشرين. هُناك، أظلُ قابعًا حتى أطمئن أن الإمة خالية ثم كُما نَزلتُ أطلع.

لم أُقفش مَرة واحدة.

في الدور قبل الأخير وأنا تحت السيارة سمعتُ خطواته تقترب، فرفعت وجهي وحبست أنفاسي عن تراب الأرض، فإذا به يتوقف ويستلقي على بطنه مُزحزحًا حاله يهمس:

” إتاخِر، خُش غادي فى براح جنبَك. يووه الله. ماتتاخِر يا عبده يخرب بيتك أديك خليتني أخبط دماغي أهو. خلينى أستخبى معاك والنبي. في وَسع جنبك والله ماهَطلع نَفس.”.

كان يلهث وكنتُ غضبانًا وأوشكتُ أن أقذف قبضة من تراب في فمه لأخرسه.

“الواد خلّص عد، خُدني جنبك بدل ما نتقفش إحنا الإتنين”.

كززتُ على أسناني وأفسحتُ له.

“مكان حلو أتاريك مش بتتقفش خالص. صَوتُه فرحان ومُرتاح ومبحوح”.

 قلت: “هس اخرس يابن الكلب”، فأعطاني قفاه وسكت. خده الأيمن وأذنه على الأرض يتبين ما إذا كَانتُ خيول العدو في اقتراب أم ابتعاد. كُنت على يقين أني سأُقفش هذه المرة وأكثر من مرة تخيلتُ خطوات أخرى تقترب.

كُنا أول الناجين على الإمة ولم يعد أحد بعد، أمسكتُه من يده التي كانت تمسح نصف وجه عانق تراب الأرض، قُلت “حِسَك عينك تيجي ورايا تاني، انت فاهم؟” ودفعته في صدره. مسح التراب مكان يدي من على قميص بيچامته الواسعة وقال “ماتزُقش بس” وهو ينظر في عينيَّ ثم انحنى يَفُك سير صندله المُهترئ؛ العلامات الحمراء التي تركها تحته رمتني لأرض القشعريرة.

” حاضر مش جاي، خُد المكان لوحدك”.

سحبتُ شخرة فاشلة أصابني فشلها بالارتباك ثم قُلت من بين أسناني “آه، آخدهُ لوحدى، أنا إللي لقيته والمكان بتاعي”.

عاد للوقوف، كان وسيمًا وشعره ناعم طويل، ولما نظرتُ في عينيه خلال الضوء القادم من أحد البيوت القديمة، خطر لي أن أسمح له أن يأتي معىي، وأهو على الأقل لو اتقفشت نتقفش إحنا الإتنين سوا ثم ركلتُ ذلك الخاطر بعيدًا لما وجدته يقول:

“ومش هقول لحد كمان وأما أنزل فيها هسيبك ومش هاجي أَسَبِّتَك. بس بشرط، قُول لي على مكان زى دَه كده أستخبى فيه وماتقفش. ها؟ العيال إللي مش بيتقفشوا خالص بيستخبوا فين؟”

“لو قُلت لك مش هتقول لحد؟” سألت مُتشككًا.

“آه وحياة أمي”. صدقتُه، كُنت وقتها أؤمن أن من يحلف بحياة أمه أبدًا لا يرجع في حلفانه.

وجدتها فرصة رغم أني لا أعرف مكانًا آخر، والمكان الذي كُنت أختبئ فيه عرفته بالصدفة. لكنه سيثق في ما سأقوله، لم يكن أمامه سوى ذلك؛ كنت من العيال إللي مش بيتقفشوا خالص لما يستخبّوا.

قلت، وفي عين عقلي الأماكن الساحرة البعيدة الموحشة التي يسكت أبي حين نسير جوارها وتأتيني في الأحلام، “استخبى في المجلس (كُنا نُشير إلى المجلس المحلى المهجور بالمجلس فقط) أو في جنينة البرتقال عند أول طريق الغارة لحد ما الدنيا تهدى وابقى تعالى”. كان المجلس على بعُد شارع واحد وهزة رأسه أول ما سمع كلمة مجلس أخبرتني أنه سيختبئ هُناك.

تقاطر المشتركون حتى اكتملنا وبدأنا الدور الأخير. هَمس الولد شيئًا ما في أذني وانحنى وربط سَير صندله وشَقَّ الشارع أمامي يتلخلخ في بيچامته الواسعة. اسمهُ إبراهيم ويجلس في مؤخرة الفصل وحينما كُنت أسأله ساكن فين يا إبراهيم؟ كان يقول ساكنين غادي وُيشير إلى ناحية وأنا لم أكُن أخرج كثيرًا ولا أعرف كلام الناس ففكرتُ أن “غادي” هذه قرية مُجاورة. يُخيل لي ساعات أن إبراهيم وهو يشق الشارع التفت ويخيل لي أيضًا أنه لما التفت كانت هُناك ابتسامة حلوة على وجهه. الناس يختفون وأولئك الذين لا يرجعون مُطلقًا إلينا يبتسمون قَبل اختفائهم، أليس كذلك؟

نظرت في وجه سارة، ابنتي الكُبرى ولم يسعني التفكير سوى في أم إبراهيم المُلتاعة التي مضتُ تسأل عنه في البيوت الليلة نفسها. خبَّطت على بابنا وانحنت تلهث. كانت صغيرة جدًا ومُنهكة وبيد أنها من أولئك الذين لا يعرفون عن الأشياء الكثير. سألتني عن إبراهيم فقلت “ماعرفش”. جلست على عتبة بابنا تخمش ساعدها الأيسر بيدها اليمنى. أبي قال لي “هَات كوباية مية”، ولمّا عدت وناولتها الكوب سألتني مَرة أخرى عن إبراهيم فوخزنى من عينيها الخطر فقُلتُ وأنا أنظر إلى نهايتي بنطال بيچامتي “وحياة ماما ما أعرف”. أظُن أني أمضيتُ تلك الليلة أبكي وأعتذر إلى أمي التي كانت بلا أدنى شك ، تنظُر إليَّ غضبانة من مكان ما، ثم نمت، لأنه كان لابدُ أن أنام، وحلمت به لأنه كان لابد أن أحلم به وصحيتُ على هَمسات الناس عن الاختفاء التام لوَلد صغير يعمل أبوه في محجر بعيد، بينما أمضت أمه الليل تطرق الأبواب، والخلق يبحثون عنه.

انحنيتُ فآلمني ظَهري ولم تكن هُناك حاجة إلى الانحناء. كان كُل شئ واضحًا؛ لم يكُن هُناك أحد. الرعشة تَسللَت على أمواج خلف رقبتي وأسفَل ظَهري ولم أستطع إخفائها. يَدي ملوّثة بالحبر وابنتي تَنظر لي كخائن يتستر على أختها ولن يُخبرها عن مكانها كما لم يُخبر أحدًا قَط عن الذي حدث مع الولد. كيف كان يُمكنني أن أخبر أحدًا؟ بابا؟ الناس قالوا اختطفه الأشقياء وسمّوا أسماء. قالوا خبّوا عيالكم الصغيرة أسلم، ثم قالوا ربّنا يصبرنا ويصبر أمه وكلام كثير لكنهم لا يعرفون ما أعرفه ولم يبحثوا في المكان الصحيح كما فعلت. الولد لَقى مكان يا عيال.

كُنت صغيرًا وخوفي قليل والعودة إلى مسرح الجريمة لا تَعض. لو كُنت لا زلتُ أعيش في القرية نفسها، لو كانت الحكومة لم تَهدم المجلس، ولو لم أكبر هكذا وأهجر الاستغماية وأصير خائفًا، لكُنت تركتُ كل شئ عدا البحث عنه. “بابا؟” لكنت قرأت له آية الكُرسي كُلَّ ليلة لمدة شهر. وحين كُنت أرى أمه في الشارع كُنتُ أهرول وأسلم عليها وأسألها عن حالها. كانت ترد لكنها لم تكن حقًا هُناك. هل الناس مُجرد أناس نخسرهم في المعركة وننساهم في الزحف؟ “يا بابا؟ خبّيت هاجر فين؟” “هنا؟” وأشارت إلى ما تحت الحوض، “مفيش حَد هنا يا سي بابا”، وعقدت يديها وحاجبيها وصمتت تنتظر جوابًا في أغلب الأحوال لم أكن لأعرفه. وضعتُ يدي خلف ظهري وسألتُها بأسنان مصطكة، “تلعبي استغماية يا سارة؟” رفعت حاجبيها وحركت الهواء الساكن بأصابعها “وهاجر؟” سألتني. قُلت “هتدوري علينا احنا الاتنين”. قالت “ماشي” وابتسمتْ وابتسمتُ. “يلّا استخبى يا سي بابا، هاعد من واحد لعشرين وبعدين هاجي أدور عليك”، وذهبتْ إلى غرفة نومها وبدأت تعد. تنهدتُ، لم يكن عليَّ أن أذهب بعيدًا. لا عربة للدكتور إسماعيل ولا مَجلس محلي قديم يبعد شارعًا واحدًا. انحنيتُ وحشرتُ حالي مقرفصًا أسفل الحوض. أظلني سكوتي حتى انتهتْ من العدّ، ثم صرت أهمس على وتيرة ارتعاش يدي،” “إتاخِر، الله، خُش غادي فى براح جنبَك. الله. ماتتاخِر يا إبراهيم، يخرب بيتك خليتني أخبط دماغي أهو. خلينى أستخبى معاك والنبي. في وَسع جنبك والله ماهَطلع نَفس. أقسم بالله ماهطلّع نَفس”.

*****

خاص بأوكسجين