نقب بين صفحات الذكريات كعربي جف بتروله، شحذ فأسه من جديد ليتم فتوحاته الجنسية. لهث يطارد ورماً يريد اجتثاثه، لاحقه بين الذكريات بحلوها ومرها: الولادة بلا استئذان، خطأ في التخلص من أسنان الحليب، مَقتُ القيلولة، قضمُ الأظافر، الشفقة المنثورة على قسمات الوجه، آلام الأضراس ليلًا، ثقب المعدة الأسود الذي التهمَ طاقة جسده الهزيل، العطش الدائم لرضاب الأنثى، الجوع الروحي والنهم في التهام الأوراق كمجزة العشب، كره طبقي للآخر الذي سلبه الابتسام بحرية، الحلم الدائم بأن يحلم يوما ما، التأفُف من النظر إلى المرآة، خوف مَرَضِي من ذكريات الدراسة، جسد معلمة الابتدائي الممشوق، مؤخرة جارتنا المكتنزة…أصدقائي الغرباء، جيوش من الحبيبات، حب غابر بين القصائد وتأوهات الثلث الأخير من الليل، شنق رب العمل بالشارب…
استوقفه وجه عجوز يتكرر في كل الصفحات مثل ختم وزاري على سجل. تفحصه مليا، دنى منه وتساءل:
هذه التجاعيد أعرفها، أليست هي؟ هذه العيون الصافية النظرات تتسرب إلى الفؤاد كأنها تعرفه زقاقا زقاقا، تلك الشفاه المترهلة تحمل نفس رائحة فردوس عالقة بمسامات خذي من زمن بعيد، هل من المعقول أن تكون نفس الشفاه التي كانت تطبع الأمل على جبيني كل صباح؟ ماذا حدث؟ متى، وكيف، ولماذا أصبحت عجوزا إلى هذا الحد؟ هو نفس الوجه الذي ضخ في جسدي الحياة نقطة نقطة؟ نفس الوشم المنقوش على ذقنها كآخر دليل على حضارة دمرها الآخر المؤمن، لم يتغير كأنه وشم حديث، أين اختفى البريق المنبعث من ثغرها الباسم؟
تيقنَ أنها هي.. م يستطع منْعَ نفسه من التصبب دمع آسفٍ بين كفيها عندما تذكر أنه نسيها بينما كان يحاول تصفيف خاطر الأخرى. من هي الأخرى ؟ تلك التي سلبته ذاته وجردته منه، ماذا منحته لينسى سبب وجوده؟ وعاء إفراغ رغباته الجنسية؟ قبلة مسروقة من سلطة الوالد؟ هذيان ليلي باسمها؟ وعدُ السماح بالتهام الجسد كنار على هشيم؟ صدر دافئ يختبئ فيه من الذكريات؟ شفاه رطبة يذوب بينها لينسى ما كان يعترف به لنفسه ساعة ضعف…
حاول إزالتها من طريقه، دفع بكل ما أوتي من خيبة.
أعتقد أنه تخلص من لعنة الأنثى. لكن الصفحة أزالت اللثام عن جيوش تسكنّ في صفحات تحتها. جيشت مشاعره، امتلأ رغبة، سيطر عليه الحيوان،
تفَ في يده حتى صارت إناء لُعابٍ، صفع نفسه. ليخرج من وضعه الحيواني…
حاول التملص من ذكرى الأنثى، استمر في بحثه بين الصفحات. يعدو هاربا من الجميع، صفحة تلقيه لأُخرى ككرة يد. لفت انتباهه طفل حزين على الهامش، اقترب منه حتى أصبح على مرمى جملة منه، تقاطعت نظراتهما، جمود طويل يتخلله صمت صاخب.
إنه أنا الطفل. ما سبب حزني؟ اقترب منه الطفل وهمس بحسرة:
لقد دمرتني يا أنا الكبير عندما قررت الخضوع لهم، بروتوكولاتهم، سلوكياتهم، تلونت بهم حتى الثمالة، سكنوك لدرجة لم يبق فيك مجال لَكَ…
اغرورقت عينا الطفل، لم يستطع أن يواسيه، كل ما قوي على فعله أن يحتضنه، دس الصبي ورقة في يده وتلاشى في الفراغ. فتح الورقة، لم يجد فيها شيئا، كانت الرسالة واضحة من الطفل. لقد تحول إلى مجرد فراغ…
حاول تمزيق الصفحة، شعر بذاته تتمزق كلما تقدم في ذلك، تملكه الألم والتعب، تراجع عن ذلك. أغلق الكتاب وقرر أن يحاول ملء الورقة التي تركها له الطفل بما يناسب…
*****
خاص بأوكسجين
كاتب من المغرب، من اصداراته رواية بعنوان "صهيل جسد"""
