إلى حفل الزفاف
العدد 173 | 17 أيار 2015
جون برجر/ ترجمة: أسامة منزلجي


الفصل الأول

 

رائعة حفنة من الثلج في أفواه

رجال يعانون حرارة الصيف

رائعة رياح الربيع

بالنسبة إلى بحّارة يتوقون إلى نشر الأشرعة

والأكثر روعة هو الغطاء الوحيد

الذي يغطي عاشقين في السرير.

 

   أحبّ أنْ أقتطف أبيات من الشِعر القديم في الوقت المناسب. وأتذكّر معظم ما أسمع، وأُصغي طوال النهار لكنني أحياناً لا أدري كيف أُنسِّق الأشياء معاً. وعندما يحدث هذا أتشبّث بالكلمات أو العبارات ذات الجرس الصادق.

   في الحي المُحيط ببلاكا، التي كانت قبل قرن أو نحوه مُستنقعاً وهي الآن حيث يُقام السوق، أُدعى تسوباناكوس، وتعني راعي الغنم. ساكن الجبال. وهذا الاسم مأخوذ من أُغنية.

   في صباح كل يوم وقبل أنْ أتوجه إلى السوق أُلمّع حذائي وأنفض الغبار عن قبعتي الستيتسون. المدينة تعجّ بالغبار والتلوُّث والشمس تجعلهما أسوأ. وأضع ربطة عنق أيضاً. والمُفضّلة لدي هي ذات اللونين الأزرق والأبيض الزاهيين. حتى الأعمى لا يُهمل في مظهره. وإذا فعل، فهناك مَنْ يستنتجون استنتاجات زائفة. وكأنني بائع مجوهرات وما أبيع في السوق هو “التاماتا”. 

   و”التاماتا”هي أغراض يمكن للأعمى أنْ يبيعها لأنه يمكن التمييز بينها باللمس. بعضها مصنوع من التنك، وأخرى من الفضة أو الذهب. وكلها رقيق كالورق الكتاني وكل منها بحجم بطاقة الائتمان. وكلمة” تاما” مأخوذة من فعل “تازو”، يُقسِم. ويأمل الناس في مقابل وعد مُعطى، أنْ يحصلوا على بركة أو على رأي. الشبان يشترون “تاما” سيف قبل أنْ يلتحقوا بالخدمة العسكرية، وهي طريقة في تمنّي: ليتني أخرج منها بلا جراح.

   أو قد يقع أمر سيئ لشخص. مرض أو حادث. والذين يحبون شخصاً يُهدده خطر يُقسمون أمام الله بأنهم سوف يقومون بعمل خيِّر إذا برأ المحبوب. وعندما تكون وحيداً في العالم، يمكنك حتى أنْ تقوم به لنفسك. 

   قبل أنْ يذهب زبائني إلى الصلاة، يشترون مني قطعة “تاما” ويُدخلون شريطاً من حلقتها، ثم يربطونها على الحاجز بجوار الأيقونات في الكنيسة. وهكذا يتمنون من الله ألا ينسى صلاتهم. 

   على المعدن الرقيق لكل قطعة “تاما” طُبِعَ شعار لجزء من الجسم المُعرَّض للخطر. ذراع أو ساق، بطن أو قلب، يدان، أو، كما في حالتي، عينان. وذات مرة كان لدي “تاما” نُقِشَ عليها صورة كلب، لكنّ الكاهن احتجَّ مُدّعياً أنها انتهاك للحرمات. لم يكن يفهم أي شيء، ذلك الكاهن. كان قد عاش حياته كلها في أثينا، لذلك لا يعرف أنَّ الكلب في الجبال يمكن أنْ يكتسب أهمية أكبر، أكثر أهمية من اليد. لم يتخيَّل أنَّ خسارة بغل يمكن أنْ تكون أفدح من خسارة ساق لا تبرأ. واقتطفتُ له من أقوال الإنجيل: تأمّل الغربان: إنها لا تبذر ولا تحصد، ليس لديها مخزن ولا حظيرة. ومع ذلك يُطعمها الله… عندما قلت له هذا، شدّ لحيته وأدار لي ظهره كأنني الشيطان.

   كان لدى عازفي البزق ما يقولونه أكثر من الكهنة عما يحتاجه الرجال والنساء.

   لن أخبرك بما كنتُ أعمل قبل أنْ أصبح أعمى. وإذا كانت لديك ثلاثة تخمينات فسوف تكون كلها خاطئة. 

تبدأ القصة في عيد الفصح الأخير. في يوم الأحد. كنا في منتصف الفترة الصباحية وعبق القهوة يملأ الجو. وعبق القهوة ينتشر أكثر بعد طلوع الشمس. سألني رجل إنْ كان لدي شيء لابنته. تكلَّم بإنكليزية متكسرة.

   سألت “أهي طفلة صغيرة؟”

   “أصبحت امرأة الآن”

   سألتُ “أين مركز ألمها؟”

   “في كل مكان”، قال.

   أخيراً اقترحت، “هل يناسبها القلب؟”، وأنا أتحسَّس بأصابعي لأعثر على “تاما” في الصينية وأقدمها إليه.

   “أهي من التنك؟” جعلتني لكْنته أظن أنه فرنسي أو إيطاليّ. أعتقد أنه كان في مثل سني، وربما أكبر قليلاً. 

   قلتُ بالفرنسية “لدي واحدة من الذهب إنْ شئت”

   أجاب ” لن تبرأ “

   “أهم شيء هو العهد الذي تأخذه على نفسك، أحياناً ليس في الإمكان فعل أي شيء آخر”.

   قال “أنا أعمل في سكة القطار، ولست مشعوذاً. أعطني الأرخص ثمناً، المصنوعة من التنك” 

   سمعت صرير ملابس وهو يستخرج المحفظة من جيبه. كان يرتدي بنطلوناً وسترة من الجلد.

   “لا فرق بين التنك والذهب، أليس كذلك ؟”

   “هل أتيت إلى هنا على متن دراجة نارية ؟”

   “مع ابنتي لقضاء أربعة أيام. بالأمس ذهبنا لزيارة معبد بوزيدون”

   ” الذي في سونيون ؟ “

   “هل شاهدته؟ أذهبت إلى هناك؟ عُذراً “

   لمستُ نظارتي السوداء بإصبعي وقلت : “شاهدتُ المعبد قبل هذا”

   “كم يُكلّف قلب التنك؟ “

   وخلافاً لِما يفعله شخص يونانيّ، دفع من دون أنْ يُماحك في السِعر.

   “ما اسمها؟ “

   “نينون”

   “نينون؟”

   نطق كل حرف على حِدة. “ن  ي  ن  و  ن”

   قلت، وأنا أرتب النقود “سوف أفكر فيها”. بعد أنْ قلت هذا سمعتُ فجأة صوت. لابد أنَّ ابنته كانت في موقع آخر من السوق. والآن هي إلى جواره. 

   “انظر إلى صندلي الجديد – إنه صناعة يدوية ! لن يُخمّن أحد أنني اشتريته تواً. كان يمكن أنْ أكون قد انتعلته منذ سنوات. لعلي اشتريته من أجل يوم زفافي، الذي لم يحدث أبداً”

   سأل عامل سكة القطار “هل رباط ما بين أصابع القدمين يؤلِم؟”

   قالت “جينو سيحبه. ذوقه جيد في اختيار الصنادل”

   ” الطريقة التي يُربَط بها عند الكاحلين جميلة جداً “

   قالت ” إنه يحميك إذا مشيت على زجاج مكسور “

   ” تعالي إلى هنا لحظة. نعم، الجلد جيد وناعم “

   ” أتذكُر، يا بابا، وأنا صغيرة كيف كنتَ تُجففني بعد الاستحمام وأجلس على المنشفة على ركبتك، وتخبرني كيف أنَّ كل إصبع قدم صغير كان غراباً سرق هذا الشيء وذاك وذلك ثم طار هارباً… “

   تكلّمت بإيقاع هادئ مٌقتضَب. دون إغفال أي مقطع صوتي أو مدّه بلا لزوم.

   أصبحت أصوات الأشخاص، وأصوات الأشياء، والروائح الآن تجلب الهِبات إلى عينيّ. أُصغي أو أشم ومن ثم أراقب وكأنني في حلم. تراءى لي وأنا أُصغي إلى صوتها أنني أرى شرائح من البطيخ مُرتّبة بعناية على طبق، وتيقّنت من أنني سأتعرَّف إلى صوت نينون في الحال حالما أسمعه من جديد.

 

الفصل الثاني

   مرَّ عدد من الأسابيع. أحدهم يتكلَّم الفرنسية وسط الحشد، وأبيع قطعة تاما أخرى عليها رسم قلب، وصرير دراجة نارية تنطلق متجاوزة إشارة المرور – هذه الأشياء كانت بين حين وآخر تذكّرني بعامل سكة القطار وابنته بينون. كلاهما مرّا مرور الكرام، ولم يمكثا. وذات ليلة، في بداية شهر حزيران، تغيَّر شيء.

   في الأمسيات، أقطع المسافة بين بلاكا وبيتي مشياً. ومن بين مزايا العمى أنَّ في استطاعتك أنْ تطوِّر إحساساً خارقاً بالزمن. ساعات اليد لا فائدة لها – على الرغم من أنني أبيعها – لكنني أعرف وبدقّة الوقت الذي نحن فيه من النهار. وفي طريق عودتي إلى المنزل كنتُ أمرّ بانتظام بعشرة أشخاص أُحييهم وأتبادل معهم بضع كلمات. بالنسبة إليهم أنا الذي أُذكّرهم بالوقت. منذ عام كان بينهم كوستاس – ولكن بيني وبينه قصة أخرى، ليس هذا وقتها.

   على أرفف الكتب في غرفتي أحتفظ بالتاماتا، وبأحذيتي الكثيرة، وصينية تحمل العديد من النظارات مع أجرة الحافلة، وقطع الرخام خاصتي، وبعض قطع المرجان، وبعض أصداف المحار، وعلى الرف العلوي قيثارتي – نادراً ما أُنزلها – وبرطمان من الفستق، وعدد من الصور الفوتوغرافية المؤطّرة – نعم – وأُصيص أزهاري : الخبيزة ، والبيغونيا، والبرواق، والورد. في مساء كل يوم ألمسها لأرى كيف صارت وكم عدد الأزهار التي تفتحت.

   بعد أن أتناول مشروباً أغتسل. أحبّ أنْ أستقل القطار للذهاب إلى بيريوس. أمشي على طول جانب رصيف الرسو، أطرح على نفسي السؤال العَرَضيّ لأخبر نفسي أي السفن الكبيرة رست وأيُّها سوف تُبحِر في تلك الليلة، ومن ثم أقضي الأمسية مع صديقي ياني. في هذه الأيام يُدير حانة صغيرة.

   المناظر الطبيعية دائماً حاضرة. ولهذا تتعب العيون. أما الأصوات الإنسانية – ككل ما له صِلة بالكلمات – فتصل من مكان بعيد جداً. أقفُ في حانة ياني وأُصغي إلى أحاديث العجائز.

   ياني في مثل عمر والدي. كان rembetis، أو عازف بزق، بعد انتهاء الحرب صار له معجبون كُثُر وعزف مع العظيم ماركوس فامفاكاريوس. وفي هذه الأيام لا يعزف على آلته ذات الأوتار الستة إلا عندما يطلب منه أصدقاؤه القدامى ذلك. وهم يطلبون منه في معظم الليالي وهو لم ينس أي شيء. يعزف وهو جالس على مقعد من القصب وسيجارة مُقحمة بين الإصبع الصغير ليده اليُسرى والإصبع الرابع والإصبع الصغير ليده اليُمنى، لامساً الحواف. ويحدث أنه إذا عزف فإنني أرقص.

   عندما ترقص على أنغام أغنية عزفها عازف بزق فإنك تلج دائرة الموسيقى ويُصبح الإيقاع أشبه بقفص مستدير ذي قضبان، وترقص أمام الرجل أو المرأة التي عايشت ذات يوم الأغنية. وترقص احتراماً لأحزانهما اتي أثارتها الموسيقى.

 

اطردْ الموت من الفناء

لكي لا أُضطر إلى لقائه

والساعة المعلقة على الجدار

تقود الترنيمة الجنائزية

 

إنَّ الإصغاء إلى عازف البزق ليلة بعد أُخرى كأنَّ أحداً ينقش لك وشماً.

*

   قال لي ياني في إحدى أمسيات شهر حزيران بعد أنْ شربنا مأسين من الراكي، ” آه يا صديقي، لِمَ لا تعيش معه ؟ “

   قلت ” إنه ليس أعمى “

   قال ” أنت تكرر أقوالك “

  غادرتُ الحانة لأشتري بعض السوفلاكي  لأكلها في الزاوية. وبعد ذلك، وكما أفعل دائماً، طلبتُ من فاسيلي، الحفيد، أنْ يحمل الكرسي عني واستقريت على الرصيف على مسافة بعيدة على الشارع الضيق قبالة بعض الأشجار حيث أغوار الصمت أعمق. كان خلفي جدار مُصمت يواجه جهة الغرب واستطعتُ أنْ أستشعر الدفء الذي اختزنه في أثناء النهار.

   سمعتُ عن بُعد ياني يعزف لحناً كان يعرف أنه أحد الألحان المُفضّلة لدي :

 

عيناك، يا أختي الصغيرة

تشرخان قلبي

   ولسبب من الأسباب لم أرجع إلى الحانة. جلستُ على كرسي القصب وظهري باتجاه الجدار وعصاي بين ساقيّ وانتظرت، كما انتظرتَ أنت قبل أنْ تنهض ببطء لتقف على قدميك وترقص. وأعتقد أنَّ ذلك اللحن انتهى من دون أنْ يرقص أحد.

   جلستُ هناك. كان في استطاعتي أنْ أسمع طيور اللقلق تحمِّل، ظلت تحمّل طوال الليل. ثم تكلّم صوت كان يلفّه الصمت المُطبِق، وعرفتُ أنه صوت عامل سكة القطار. 

   كان يقول ” فيديريكو، come sta (كيف حالك) ؟ يسعدني أنْ أسمعك، فيديريكو. نعم، سوف أغادر في صباح الغد الباكر، في غضون بضع ساعات، وسوف أكون معك يوم الجمعة. لا تنس، يا فيديريكو، سوف أدفع ثمن الشمبانيا كلها، سوف ادفع، فاطلب ثلاثة صناديق، أو أربعة ! كما تشاء. نينون هي ابنتي الوحيدة. وسوف تتزوج. Si. Certo. (نعم. حتماً) “

   عامل سكة القطار يتكلَّم الإيطالية عبر الهاتف ويقفُ في مطبخ منزل من ثلاث غرف في بلدة مودين التي تقع على الجانب الفرنسي من جبال الألب. إنه عامل الإشارة، الدرجة الثانية، والاسم على صندوق بريده هو جان فيريرو. والداه كانا مهاجرين من بلدة الأرز فيرتشيللي في أيطاليا.

   المطبخ ليس كبيراً ويبدو أصغر حجماً بسبب الدراجة النارية الضخمة في موقعها خلف الباب الأمامي الذي يودي إلى الشارع. والطريقة التي تُرِكَتْ بها المقالي على الموقد تدل على أنَّ الطبخ يقوم به رجل. وفي غرفته، كما في غرفتي في أثينا، لا أثر للمسة أنثوية. إنها غرفة يعيش فيها رجل بلا امرأة، والرجل والغرفة تعوّدا على ذلك.

   وضع عامل سكة القطار سماعة الهاتف مكانها، ويتقدم من طاولة المطبخ حيث نُشِرَتْ خريطة وينتقي لائحة بأرقام الطرقات والبلدات : بينيرولو، لومبرياسكو، تورينو، كاسال مونفيراتو، بافيا، كاسالماجيوره، بورغوفورته، فيرارا. ويُلصِق اللائحة بشريط لاصق بجوار الأقراص. تفحّصَ سائل المكبح، السائل المُبرِّد، والزيت، وضغط إطاريّ الدولابين. ويتحسّس وزن السلسلة بسبابة يده اليُسرى ليرى إنْ كانت مربوطة جيداً. ويُدير أداة الإشعال. وتُضاء الأقراص باللون الأحمر. ويتفحّص المصباحين الأماميين. وإيماءاته منهجية، ومتأنيّة وأيضاً – فوق ذك كله –  رقيقة، وكأنَّ الدراجة كائن حيّ.

   قبل ستة وعشرين عاماً كان جان يُقيم بالمنزل ذي الغرف الثلاث نفسه مع زوجته، التي كان اسمها نيكول. وذات يوم تركته نيكول.قالتْ إنها ملّت عمله في الليل وقضاءه كل دقيقة أخرى في الإعداد لضريبة الدخل وفي قراءة الكتيبات في السرير – وكانت تريد أنْ تعيش. ثم صفعت الباب الأمامي ولم تعُد إلى مودين أبداً. ولم يكن لديهما أطفال.

_______________________________

من رواية بالعنوان نفسه للمفكر الانكليزي جون برجر

الصورة للفوتوغرافية التركية ايبرو جيلان Ebru Ceylan

*****

خاص بأوكسجين