إلى “أسماء” في حضن زوجها
العدد 209 | 04 نيسان 2017
مصعب شريف


“الحب قصيرٌ جدًّا ، والنسيانُ طويلٌ جدًّا”

بابلو نيرودا

 

الغرفة ذات الإضاءة الخافتة تخلصت من رائحتها العطنة. كانت في هذه الليلة تبارح فوضاها، تخلو أرضيتها من أعقاب السجائر وعلب البيرة الفارغة وصفحات الجرائد اليومية المبتذلة وبقايا الخبز الجاف.  الأسرّة الثلاثة مرتبة بشكل منفر جعلني متردداً في تخير موقعي بينها، اهتديت أخيراً للجلوس على الكرسي الوثير الوحيد في الغرفة. وضعت الهاتف على الشاحن، أشعلت سيجارة واستغرقت في التفكير. رؤوس أفكار متعددة حول الإلتزامات المالية التي ستجابه راتب الشهر المقبل، سرعان ماتجاوزتها للتفكير في ضرورة الاشتراك الشهري في أحد المواقع التي تقدم بعض الأفلام الحديثة.

بدت الفكرة سخيفة للغاية؛ فالأفلام متاحة في فضاء الإنترنت كما أن راتبي زهيد ولا يحتمل مزيداً من الأعباء. أطفأت سيجارتي التي تبخرت بلا تلذذٍ لمذاق النيكوتين، حاولت إشعال سيجارة ثانية، إلا أن صوتاً خفياً باغتني باتفاق قديم: أن أتوقف عن إشعال السيجارة تلو الأخرى، للتخلص من التدخين يا أسماء.. اتفاق تجاوز اثني عشر عاماً الآن.

تناولت السيجارة ليتبخر اتفاقنا للمرة الألف بين خيوط دخانها المتصاعد، دون أن يخالجني أدنى شعور بالذنب، كيف لمن تخلص من حياة عاشقين بأكملها أن يحتفظ بتفصيلة شفقة تافهة مثل الامتناع عن التدخين المتواصل؟ لا أدري ما دفعني لاجترار هذه الذكريات الآن بعد كل هذه الأعوام. من أحياك يا أسماء في ذاكرتي بعد أن قتلتك بالنسيان الطويل؟

  ابتسمت بفتور كإجابة لتساؤلي، نقبّت في مجلدات بريدي الإلكتروني، فوجدت رسالة مكتوباً عليها “للذكرى” مرفقة بصورة وحيدة، صورتنا معا أو بشكل أدق صورتنا أنا وأنتِ وشجرة النيم الضخمة التي سئمت شجارات أيام حبنا الأولى.

ربما هو الحنين، ما دفعني للبحث عنك في الصور القديمة المخبأة منذ أعوام في ذاكرة “الجي ميل”. قلّبت صورك الحديثة على “فيسبوك” بحذر دون أن أترك أثراً يدل على تلصصي، كانت بانوراما من الملامح الباردة الغريبة لامراة لا تمت لأسماء بصلة، امرأة أخرى لا أعرفها.

توقفت في صورتنا القديمة التي أغرقتني بالتفاصيل منذ اليوم الأول للقائنا في معهد تدريس اللغة الإنجليزية بالسوق العربي في الخرطوم، وحتى ليلة زواجك التي تداعى لها الأصدقاء بالسهر والأنخاب في منزل “العُزّاب” بالخرطوم بحري. كنت أنتظر القادمين من حفل الزفاف بالصور والانطباعات، ومع كل واحد منهم تشتعل الضحكات وتدور كؤوس العرق ولفافات “البانجو” من جديد.

لكم أفتقد تلك الأيام. أحتاج لطعمها المرير وأحن إليه في ليالي غربتي الطويلة هذي، تنازعتني الذكريات وتناثر عقلي بين لحظاتها، إلا أن الندم لا يليق بأمثالي؛ فلو فتحت له باباً لغمر حياتي المثخنة بالخيبات ونشوة الكحول ووخز الإيقاعات الإفريقية في نهاية الأسبوع. عدا ذلك لا حياة لي، فما أجده من وقت بعد يوم عمل طويل، أنفقه متجولاً في عوالم مواقع التواصل الافتراضية، حيث يبدو الوجود هنا أخف وطأةً من الواقع المربك.

نشرت صورتنا على “فيسبوك”. كنا شبه متعانقين تقريباً، عيوننا تضج باللهفة والاشتهاء، كما أن ملامحنا الطفولية المكسوة بغبار الخرطوم، وشجرة النيم التي تشاركنا الحيز الفوتوغرافي، أضفت على الصورة أبعاداً جديدة لم يتسنّ لنا رؤيتها حينها، ولربما اختلقها الكحول في رأسي الآن.

ما زلت أتمتطق طعم القبل الطويلة المتقطعة التي تلت التقاط هذه الصورة، على الرغم من طعم بيرة “الهنيكان” الذي يغمر لساني في  هذه اللحظة. نشرتُ صورتنا يا أسماء بعد أعوام على رحيلك مع زوجك، وإنجاب رضيعك. نشرتها الآن تحت تأثير الكحول، فمنذ مغادرتك وأنا لا أذكرك إلا على وقع زجاجة ما.

لا أود أن أنظر إليك أكثر، لكن ما إن يرتفع بصري حتى يرتد إليك مجدداً، ففي هذه الصورة تعانقنا طويلاً وتعاهدنا على أن نكون معًا. اخترناها بالتحديد من بين مئات من الصور التي التقطتها صديقتك لنا وهي تضحك، فاتفقنا على تكبيرها ووضعها في حائط غرفتنا، حتى يعرف كل من يزورنا عمق علاقتنا، وتمرحلها.

صورتك يا أسماء لا تزال معلقة هنا، في منشور مفتوح لأكثر من ثلاثة آلاف صديق، في مقدمتهم شقيقات زوجك. عدد علامات الإعجاب بصورتنا التي يتصدرها إهدائي الفج: “إلى أسماء في حضن زوجها..”، فاق المئة بقليل، أما شريكتي في الصورة والماضي وصديقتي في الفضاء الافتراضي لم تحرك ساكناً.

لا بد أنها ترضع صغيرها الآن، أو ربما في الحمام تجلو جسدها بمنقوع “الخُمرة”؛ فأجواء الخليج الشتوية هذه الأيام تحفز على التزاوج. وضعت كل الاحتمالات كعهدي في انتخاب الأعذار لك. ولكنك كالعادة لاتلقين بالاً لكل هذا. ساعة وأربع وأربعون دقيقة مرت على نشر الصورة، دون أن تكوني في قائمة المعجبين.

 لابد أن زوجها غاضب الآن، فملامحه المحايدة التي تطفو فوق وسامة أرستقراطية بادية، تجلعني دائماً أحتفظ له بوجه حاد، على الرغم من أن لقائي الوحيد به كان عابراً ولا يكفي لترسيخ أية انطباعات. يا للحماقة! أخذتني الكؤوس بعيداً لأخرب لأسماء حياتها للمرة الثانية أو الثالثة ربما. لعب الخمر برأسي لأتجاوز حدود اللياقة وأنشر صورتها/صورتنا، من دون علمها. هل أحذف المنشور بعد أن مضت ساعتان على نشره؟ وهل سيجدي الحذف؟ من يضمن أنه ليس من بين هؤلاء المئة معجب متطفل نسخه واحتفظ به في ذاكرة هاتفه أو ذاكرة ثرثراته اليومية؟ لن تجدي إزالته إذن. كما أني اعتدت ألا أتراجع عمّا أنشره بحكم مهنتي، التي تعتبر مثل هذا الفعل ضعفاً لمصداقية الصحفي ومؤسسته.

أسماء، على زوجك أن يتحلى بالحكمة فقط، أن ينسى إهدائي لزوجته صورة عناق من عناقاتنا القديمة وهي في حضنه، مثلما نسي من قبل أنه ضبطنا متلبسين برسائل غرامية أثناء فترة خطوبتكما. عليه أن يغفر مجدداً.

عندما شارك أربعة من أصدقائنا المشتركين الصورة وعليها أيقونات الذهول الفيسبوكية البليدة، كانت رأسي تصطدم بأرجل سريري الحديدي الوحيد في هذه الغرفة المتسخة. ترى كم لبثتُ على هذا البلاط البارد؟ ماذا دفعني إلى الاستلقاء هنا وسريري خالٍ؟ لا شي يدعو للعجب إنها نهاية الخميس. فخميسي هنا دائماً ما يُختتم بهذه الطريقة المأساوية. يبدو أن صديقي مأمون لم يتمكن من رفع جثتي الضخمة إلى السرير، بعد أن تسببت له بمشاكل كبيرة كعادتي مساء كل نهاية أسبوع.

متثاقلاً، قمت من الأرضية الباردة، أشعلت سيجارة، وبدأت استجماع الخطوط: الساعة الآن الواحدة من ظهر الجمعة، ما أذكره أني كنت في بار “ماركوبولو” ذي المشارب المتناثرة على سطح فندق يحمل ذات الاسم منذ السابعة مساءً، أخلط البيرة و”التكيلا” وأقلب في صور فتيات عاريات على  هاتفي، وعندما تلقيت مكالمة مأمون كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة. كان يدعوني لمرافقته إلى أحد المراقص الإثيوبية، فثمة فنان معروف سيغني أغاني سودانية لأول مرة.

ثلاث ساعات من الشرب المتواصل جعلتني أرغب في النوم ولا طاقة لي للسهر حتى الثالثة صباحا والمزيد من الشراب. وعليّ أيضاً تطييب خاطر صديق غربتي الوحيد، المراجع المالي المشغول بمطاردة الفتيات. ولقدسية يراها، فهو لا يقرب المسكرات، لأنها تلهيه عن تفحص الأجساد، فضلا عن كونها من المحرمات كما يردد دائماً، داعياً الله لي بالهداية حتى أتفرغ للعبادة مثله.

يداوم مأمون على المراقص، بل يزور أكثر من ملهى في الليلة الواحدة، لرؤية مؤخرات الراقصات التي يتابع نموها واضمحلالها ببراعة خبيرة تخسيس. يختتم لياليه ظامئاً، لا يقوى على النوم من الإفراط في تناول مشروب الطاقة “ريد بول”. يواعد الفتيات ويشتري لهن السجائر الرفيعة والبيرة والفوطات الصحية بأنواعها المختلفة.

لا يكترث كثيراً لأداء الفنان الجديد الذي أغراني به لمصاحبته، ولا لموسيقاه، حتى الراقصات لايعيرهن اهتماماً إلا عندما يختتم المغني أغنيته بمقطوعة “ورا.. ورا” الشعبية السودانية، في إشارة إلى احتفاء مرضي قديم بالمؤخرات المكتنزة. يسحب مأمون يديه من الخصر الذي يطوقه، مع كلمات الأغنية، ليولي اهتمامه للراقصات اللائي يوجهن في هذه اللحظة المنتظرة مؤخراتهن المتكورة الطازجة للجمهور، يحركنها باهتزازات سريعة متتابعة من وراء رداء النايلون الشفاف، وبمجرد انتهاء الفاصل الخفيف وعودة الراقصات لتثنيهن المصطنع، تكون أيدي مامون القلقة استقرت على جسد ما بجواره، ولا يعود للمشاهدة إلا مع تصاعد الإيقاع وانخراط الفرقة في أداء رقصة “الاسكستا” إحدى رقصات قومية الأمهرا.

الأكتاف المتناغمة مع الأزرع والأوساط والأرداف، تتدفق في أرجاء المكان، تظللها  ابتسامات دائمة للراقصة توحي لكل من في المكان أنها ترقص له وحده. في هذه اللحظات يستلف مأمون تركيز المدقق المالي الذي كانه في الصباح، ليمسح أجساد المتراصات أمامه بنظرة واحدة، وبكفاءة كاميرا سينمائية حديثة تمر عيناه على تفاصيلهن واحدة تلو الأخرى، ليعود إلى مهمته الرئيسة بعد أن يقذف عدة أوراق نقدية تجاه منصة الرقص. هكذا يقضي صديقي ليلته التي تنتهي باستيقاظه في حضن فتاة لا يعرف اسمها بعد، لكنه سرعان ما يحدثك على المقهى في اليوم التالي عن تضاريس جسدها وتاريخه السري.

شربت كثيراً من البيرة في المرقص وكان أداء المغني الإثيوبي وصوته الحاني يزيد إرباكي، كما أن الراقصات اللائي كنت أشهد عروضهن منذ ما يربو على العام، بدت كل واحدة منهن كما لو أنها في أول عرض لها. أسرتني حركاتهن المحسوبة بعناية. كن يرقصن كما لو أنهن شقيقات عريس تجاوز الخمسين في ضواحي النيل الأبيض، ستكون المرة الأولى التي أرى فيها راقصات ملهى ليلي ينسجمن بهذا التفاني كما لو أنها رقصتهن الأخيرة، ماذا يجري؟ هل ثملت لهذه الدرجة، أم أن الراقصات المرتجلات أصبحن محترفات هكذا فجأة؟

تذكرت “بيتي” الأمهرية النحيلة التي كانت ضمن هذه الفرقة في ذات المرقص قبل عام، تعلق قلبي بها منذ الكأس الأول، وهي عادة ظلت تلازمني في الآونة الأخيرة، قلبي ودقاته مبذولان للجميع بكأس أو من دون. أرسلت لها الكارت الشخصي مع النادلة التي تشرف على طاولتنا، وفي اليوم التالي كانت “بيتي” تحدثني كما لو كنا أصدقاء منذ أعوام. طلبت مني أن أرسل رصيداً لهاتفها، وأن أكف عن تثميني السخيف لرقصها، فهي لم تحرك جسدها من قبل في أي رقصة، وكانت رقصتها التي خلبت ثملاً مثلي، الأولى في مشوارها المهني. أخبرتني أنه لا مجال لمقابلتها إلا في أحد المراكز التجارية وفي اليوم المخصص لشراء بعض التنانير الجديدة وأزياء “القوراقي” الزاهية للفرقة، لكنها حتى في نزهة التسوق هذه لن تكون وحدها، بل سيتبعها موظف الأمن مفتول العضلات، الذي طلب مني أمس إعادة كأسي المملوءة إلى الطاولة قبل أن أشاركها الرقصة بعد أن زينت لي “الفودكا” أن ابتساماتها المرسلة للجميع موجهة لي شخصياً. لكن  هؤلاء “الرجال العضلات” يحرسونها من عابرين مثلي، لمصلحة صاحب المرقص الذي يريد منها أن ترقص ليلاً وتنام نهاراً، ولا حياة لها إلا على إيقاع ثرائه المجيد.

“بيتي” التي التقيتها بعد ذلك عدة مرات في أيام الآحاد المخصصة لشراء التنانير، أخبرتني بحيل الراقصات وألاعيبهن وتكتيكاتهن التي تمكنهن من الرقص بأقل مجهود منذ بداية العرض وزيادة الجرعة تدريجياً حتى يثمل الجميع وتنقضي ساعات العمل، ونادراً ما يجدن متعة في هذا الرقص الميكانيكي المكرور. ترى هل خدعتني بكل هذه القصص واختلقتها؟ وإلا فما هذا الذوبان الذي أمامي الآن؟ ما هذا التماهي اللانهائي؟ وما أتى بأسماء حبيبتي السابقة التي تقيم مع زوجها في إحدى مدن السعودية وسط هذه الفرقة التي تزداد وتيرة تفاعلها مع الموسيقى مع اختفاء رغوة “الهنيكان”.

أسماء عبد الجليل الطاهر، بفخذين أكثر امتلاءً، ترتدي عقداً جديداً، لا بد أن زوجها هو من أهداه لها، فعلى أيامي كنت أهديها الروايات والأقلام والسوتيانات والعطور الرخيصة. ترقص أسماء بذات وتيرة الفرقة وسرعان ما تنفصل لتقدم فواصل استعراضية مختلفة، تقفز فيرتفع نهداها فتظهر حواف السوتيان الدانتيل المنقط. أتذكرين حين أهديتك سوتياناً أحمر مرقطاً ماركة “ديمي”، الذي يسمح لك بإبراز الجزء العلوي من صدرك الكاكاوي الكبير.

فاجأتُكِ بالهدية في اليوم الثالث لتسمية علاقتنا؛ كنا نحتسي القهوة بالزنجبيل تحت ظلال إحدى أشجار النيم بالسوق العربي. تصنعتي الغضب حينها وتجاهلت أنا بحكمة نادرة مناقشة الأمر معك بعد أن ألقيتُ هديتكِ إلى جوف حقيبتك الضخمة، لتخبرينني في مكالمة المساء بضحكة رقيعة أنه لا يعول عليّ في المقاسات؛ فالسوتيان الأحمر الثمين ضيق جداً.

لم أقل حينها إني أحفظ مقاسات نهديك الحبيبين بالمليمتر وإنني تعمدت صنع هذه اللحظة، لأسألك كيف لي أن أعرف مقاسات شيء لم ألمسه أو أتذوقه بعد، وأستغل ذهولك لتقرير أن اليوم الثاني هو يوم أخذ مقاسات كوبي سوتيان جديد. قياساتي التي أخذتها، ترى هل ما زالت نفسها؟ هل تمزقت أكواب السوتيانات التي شهدت على ليالينا بمنزل عمي منصور في أقاصي أم درمان، بيت عشقنا ومخزن ثلاجات “الديب فريزر” المستعملة، التي كانت تكفي اثنتان متلاصقتان منها لصنع سريرنا؟ هل أصبحتِ تفضلين ارتداء نوع “استريبلس” التي تخرجك من مأزق القياسات، لكونها تصلح لجميع الأحجام، أم أنك ما زلتِ تحتفظين بطريقتي في قياس حجم نهديك بلف شريط القياس حول أحد الأكواب وقسمة النتيجة على مئة. ولماذا ترتدين هذا الرداء شديد اللمعان في المرقص الآن، ألم تكوني ممن يسلقون الفتيات بألسنة حداد في كل تفصيلة تتعلق بألوان ثيابهن ودرجة التماعها.

رأيتك اليوم يا أسماء، أمامي مباشرة ترقصين بحماس يفوق ذاك الذي رقصنا به ليلة احتسينا “الشربوت” المطعم بزجاجة “ريد ليبل” في ذلك الليل الخريفي. حين نزلنا عراة من على سرير ثلاجات عمي منصور، ورقصنا تحت ضوء القمر في الرمال. وها أنتِ ترقصين الآن بسنك المكسورة نفسها، وشبح ابتسامتك المحببة، بأيدي عريضة وأصابع طويلة تسبح في دخان أنفاس السكارى وصخب المكان.

 أشحت بصري عنك لبرهة، واتجهت لمأمون المشغول بإتمام صفقة صاحبة مؤخرة بدينة أخذت تقاسمني البيرة، ويبدو أنها سترافقنا طوال الرحلة على سيارته. بعد عدة محاولات استجاب لندائي، فأخبرته عنك مؤشراً عليك بقداحة تشق شعلتها إظلام الملهى المتدرج. إنها الثانية قبل الأخيرة من على الجهة الأخرى في صف الراقصات يا مأمون، إنها أسماء عبد الجليل. طلبتُ منه تأجيل اصطحاب صديقاته اليوم لأنكِ ستكونين معنا في السيارة حتى يوصلنا، ويمكنه بعدها أن يعود للمرقص ويشحن الجميع.

دُهش مأمون وأخذ يجمع الزجاجات المتبقية ويفرقها على أصحاب الطاولات المجاورة، طلب مني ألا أتحرك ريثما يكمل سداد الفاتورة ونذهب، لكن أسماء كانت في هذه اللحظة ترقص أمامي وأنا أخلع الجاكيت وأغني لها غير مكترث لفروقات اللغة: “رقاصة رقاصة يا أسماء.. زي البانة البانة منقسمة”، بينما تضحك هي وتدنو مني هامسة عما يمكنني أن أدفعه نظير هذه الرقصة الخاصة التي استمرت لبضع دقائق، حاولت أن أشرح لها خصوصية علاقتنا، وحبنا الذي أضعناه، قررت أن  أروي لها الآلام التي سببتها لي، لكنها انصرفت لتراقص العجوز الستيني الذي يلوح بالأوراق النقدية من فوق طاولته الممتلئة بالحسان. لم أكترث لهم، لكن شيئاً ما تصاعد في رأسي، كما لو أن أحدهم صب زجاجات المشرب فيها. رماني صديقي المنهك جثة هامدة على أرضية شقتي الباردة ورجع ليواصل خميسه الممتد.

فتحت صفحتي على “فيسبوك” لأرى ما سببته حماقة الصورة التي نشرتها وأنا متكوم تحت تأثير الكحول والبلاط الرطب، لم أجد شيئاً على الصفحة، لا صورة ولا العبارة التي وضعتها كإطار “إلى أسماء في حضن زوجها”، لكن علامة “الماسنجر” حمراء وعليها الرقم أربعة عشر. إنها أسماء لكنها على غير العادة ترسل تهديداً ووعيداً لا يليقان بهذا الضياع: “لو سمحت احترم نفسك، أنا متزوجة وأم، كيف تجرؤ على مراسلة شخص لا تعرفه في الثانية بعد الفجر؟”، ورسالة أخرى: “يا كلب يا حقير. أنا زوج أسماء، ستدفع الثمن غالياً سأكون الأسبوع المقبل في الشرطة لنضع نهاية لصفاقتك”. تتوالى الرسائل بذات اللهجة الحانقة، أقرأها بنصف تركيز وسرعان ما أغفو فما زلت ثملاً لم أتناول مايخفف وطأة الكحول. لا يمكنني مواصلة النوم دون أن أعرف ما الذي جرى لكي أتلقى كل هذه التهديدات هل نشرت الصورة حقا أم ماذا؟

لن أؤرق نفسي كثيرا في البحث عن المسببات فبعد عدة أيام سيكون علي أن أمثل أمام قاضٍ أجنبي للدفاع عن نفسي ضد حبيبتي وزوجها، هل سأفقد وظيفتي أم أن الأمر سينتهي بي إلى السجن في بلاد الآخرين؟

لن أفكر في العقوبة، سأتصل بصديقي “عز الدين” المحامي، فهو خبير بمثل هذه التعقيدات، إنه يتعامل معي كزبون متسائلاً عن الحيثيات. يطيل “عز الدين” الثرثار في سرد سوابق مشابهة لحالتي والإنهاك والكحول يتحالفان ضدي.

اختصرت ثرثرته وحديثه الذي يشبه مرافعات المحاكم في المسلسلات المصرية، وأخبرته بأني سأطلعه على التفاصيل والقرائن في المقهي حين نلتقي مساءً، لكن عليه أن يجاوب على سؤال واحد قبل إغلاق الهاتف في وجهه، هل يمكن لزوج أسماء أن يشكو وحده أم أن القاضي سيلزمه بإحضارها؟ يسألني “عز الدين” عن المزيد من التفاصيل متجاهلاً تساؤلي، يسقط الهاتف على الأرض وأغط في نوم عميق.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من السودان