إله المجزرة
العدد 173 | 17 أيار 2015
ياسمينا رضا/ ترجمة: شادي خرماشو


الشخصيات

فيرونيكا فالون 

ميشيل فالون 

أنيت رايلي

ألان رايلي 

 

كل الشخصيات تسبح في أربعينيات العمر.  

 

غرفة جلوس. لا شيء في ما نراه يوحي بالواقع، لا تفاصيل واضحة.  

 

نرى آل فالون وآل رايلي يجلسان قبالة بعضهما البعض. يجب أن يصلنا فوراً انطباع أننا في منزل آل فالون، وأن العائلتين قد تعرفتا إلى بعضهما للتو. 

في الوسط نرى طاولة مغطاة بكتب الفن، وعليها نرى باقتين كبيرتين من زهور التوليب موضوعتين في مزهريتين. 

الجو السائد يوحي بالجدية والمودة والتسامح. 

 

فيرونيكا: “إذاً، هذا هو تصريحنا، طبعاً ستدلون أنتم بتصريحكم أيضاً… في الخامسة والنصف مساءً من اليوم الموافق 3 نوفمبر، وبعد مشادّة كلامية في حديقة أسبيرانت دنانت، قام فيرديناند رايلي البالغ من العمر أحد عشر عاماً، مسلحاً بعصا، بضرب ابننا برونو فالون على وجهه. نتج عن هذا الاعتداء تورم في شفة ابننا السفلى، وكسر اثنين من أسنانه الأمامية، كما تضرّر عصب سنه القاطع اليميني من جراء هذا الاعتداء.” 

ألان: مسلحاً؟!

فيرونيكا: نعم مسلحاً! هل عندك اعتراض على كلمة “مسلح”؟ ما هو التوصيف المثالي يا ميشيل؟ متأبطاً، أم مستعيناً، أم مجهزاً بعصا؟ أي من هذه التسميات تعجبك؟ 

ميشيل: فلتكن الكلمة “مستعيناً”، نعم “مستعيناً”! 

ميشيل: “مستعيناً بعصا”. 

فيرونيكا: (تقوم بتعديل الكلمة) مستعيناً. المفارقة هنا أننا لطالما اعتبرنا حدائق أسبيرانت دانانت ملاذاً آمناً، على عكس ما عليه الحال في منتزه مونتسوريه. 

ميشيل: معها حقّ. لطالما قلنا “لا” لمنتزه مونتسوريه و”نعم” لحديقة أسبيرانت دانانت. 

فيرونيكا: تماماً. على أي حال، نشكركم على مجيئكم. لا طائل من أن نبقى عالقين في متاهة الانفعالات التي لن تصل بنا إلا إلى طريق مسدود. 

أنيت: نحن من يجب أن نشكركم. هذا واجب علينا. 

فيرونيكا: لا أرى ما يستدعي الشكر هنا. لحسن الحظ ما زال في الدنيا شيء اسمه فن التعايش، أليس كذلك؟ 

ألان: وهو فن يبدو أن الأطفال لم يتقنوه بعد. على الأقل ليس أطفالنا. 

أنيت: نعم، ليس أطفالنا… ما الذي سيحدث للسن الذي تضرّر عصبه؟ 

فيرونيكا: ليس لدينا فكرة بعد. الأطباء متحفظون جداً في تشخيصهم. لكن على ما يبدو لم يتعرض العصب كله للضرر. 

ميشيل: جزء منه فقط هو ما تعرض للضرر. 

فيرونيكا: أجل. جزء منه تعرض للضرر، والجزء الآخر ما زال سليماً. لهذا لم يقرروا سحب العصب كله بعد. 

ميشيل: يحاولون أن يمنحوا السن فرصة ليتعافى. 

فيرونيكا: من الواضح أن اللجوء إلى إجراء جراحة ليس الحل الأفضل. 

أنيت: حسناً، نعم…

فيرونيكا: لذا سيكون هناك فترة استشفاء سيمنحون خلالها العصب فرصة للتعافي. 

ميشيل: سيقومون في هذه الأثناء بوضع تاج من السيراميك لتغطية السن. 

فيرونيكا: لكن بغض النظر عما يمكن أن يحدث، لا يمكن إجراء زراعة أسنان دائمة قبل سن الثامنة عشر. 

ميشيل: هذا صحيح. 

فيرونيكا: الزراعة الدائمة لا يمكن إجراؤها إلا بعد أن يكتمل النمو. 

أنيت: طبعاً. أتمنى من كل قلبي أن ينجح العلاج وأن يُحل الأمر بأفضل صورة ممكنة. 

فيرونيكا: نرجو ذلك. 

فترة صمت قصيرة. 

أنيت: أزهار التوليب هذه رائعة الجمال. 

فيرونيكا: جلبناها من بائع زهور في سوق موتون ديفيرني. تعرفينه، ذاك الموجود في الدور العلوي، في الجانب الأيمن. 

آنيت: أجل أجل عرفته. 

فيرونيكا: تأتي كل صباح مباشرةً من هولندا، كل باقة تضم خمسين زهرة وثمنها 10 يورو. 

أنيت: حقاً. 

فيرونيكا: تعرفينه، ذاك الموجود في الأعلى على اليمين. 

آنيت: أجل أجل. 

فيرونيكا: لم يشأ أن يشي بفيرديناند. 

ميشيل: كلا، لم يشأ أن يشي به. 

فيرونيكا: يا له من مشهد مؤثر، ويا له من طفل. وجهه مهشم، وأسنانه مفقودة، ومع هذا يرفض أن يشي بمن فعل به ذلك. 

أنيت: أفهمكِ. 

ميشيل: هو أيضاً لم يشأ أن يشي به خوفاً من أن يظهر بمظهر الخسيس أمام أصدقائه، لنكن صادقين يا فيرونيكا، المسألة برمتها لا تتعدى الرغبة في التباهي والتظاهر بالشجاعة. 

فيرونيكا: بالتأكيد، لكن التظاهر بالشجاعة هو ضرب من الشجاعة أيضاً، أليس كذلك. 

آنيت: هذا صحيح… لكن كيف؟… أعني كيف توصلتم لمعرفة أن فيرديناند هو الفاعل؟ 

فيرونيكا: في الواقع شرحنا لبرونو أنه لا يقدم أي مساعدة لهذا الطفل بتكتمه على اسمه. 

ميشيل: وقلنا له إنه إذا ظن هذا الطفل أنه يستطيع أن يضرب من يشاء، ويفلت دون عقاب، فلن يردعه شيء في الأيام القادمة عن تكرار ذلك. 

فيرونيكا: قلنا له أننا لو كنا نحن أهل هذا الطفل لكنا بالتأكيد رغبنا في معرفة ما قام به.

أنيت: بالتأكيد. 

آلان: نعم… 

يبدأ هاتفه المتحرك بالاهتزاز 

أرجو المعذرة… 

ينزوي بعيداً عنهم، ويُخرج صحيفة من جيبه أثناء تحدّثه على الهاتف. 

 

… أجل موريس، أشكرك على معاودة الاتصال بي. صحيح. في عدد صحيفة اللوموند اليوم، دعني أقرأ لك… “بحسب مقالة نُشرت في مجلة “لانسيت” وتمت المصادقة عليها يوم أمس، كشف باحثان أستراليان عن التأثيرات الجانبية العصبية لعقار أنتريل، محصر مستقبلات بيتا لضغط الدم المرتفع المصنّع في مختبرات فيرني فارما. تتراوح هذه التأثيرات بين الصمم والترنّح… إذاً من هو راصدك الإعلامي بحق الجحيم؟… نعم، إنه لأمر مزعج للغاية… لا، وأكثر ما يزعجني في القصة هو ان اجتماع ملاك الأسهم سيجري بعد أسبوعين من الآن. هل لديك تأمين في حالات الطوارئ يغطي المحاكمات؟… حسناً… وقبل أن أنسى يا موريس، اطلب من طبيبك أن يكتشف ما إذا كانت القصة قد انتشرت في مكان آخر… عاود الاتصال بي. 

 

ينهي المكالمة. 

ميشيل: إذاً أنت…

ألان: محامٍ. 

أنيت: وماذا عنكم؟ 

ميشيل: أنا أمتلك شركة للبيع بالجملة… أدوات منزلية وما إلى هنالك، وفيرونيكا كاتبة، وتعمل بشكل غير متفرغ في متجر لبيع الكتب التاريخية. 

أنيت: كاتبة؟ 

فيرونيكا: كان لي مشاركة في مجموعة من الكتب التي تتحدث عن حضارة سبأ، وهي  تستند على بعض الاكتشافات التي عُثر عليها في حفريات استؤنف العمل بها إبان الحرب الإثيوبية-الإريترية. وسيصدر لي كتاباً في يناير يتحدث عن مأساة دارفور. 

أنيت: إذاً أنتِ متخصصة في القارة الإفريقية؟ 

فيرونيكا: أنا مهتمة جداً بذاك الجزء من العالم. 

أنيت: هل لديكم أطفال غير برونو؟ 

فيرونيكا: لبرونو شقيقة لها من العمر تسع سنوات، كامي. وهي حانقة على والدها حالياً لأنه تخلّص  من الهامستر ليل البارحة. 

أنيت: تخلصت من الهامستر؟

ميشيل: أجل. لقد أثار ذاك الهامستر جلبة مريعة طوال الليل. وأمضى النهار كله وهو نائم. كان برونو في حالة سيئة جداً، وكادت الضجة التي أثارها الهامستر تفقده صوابه. أما بالنسبة لي، والحق يقال، فأنا أرغب في التخلص من هذا الهامستر منذ وقت طويل، لهذا قلت لنفسي، حسناً، لقد طفح الكيل وآن الاوان. أخذته ورميته في الشارع. كنت أظن أن هذه المخلوقات تحب مصارف المياه والمجاري وما إلى ذلك، لكن ما كان منه إلا أن لبث على الرصيف مذعوراً وعاجزاً عن الحركة. ربما يصح ذلك على المخلوقات غير الأليفة، لكنه ليس حيواناً برياً. أنا لا أعلم أين هي البيئة الطبيعية لهذه الكائنات. ولن يعجبها الحال أكثر إذا ما ألقيت بها في الغابة. لا أعلم أين مقدر لها أن تكون.  

 أنيت: وهل تركته في الخارج؟ 

فيرونيكا: تركه في الخارج وحاول أن يقنع كامي أنه قد هرب. لكنها لم تقتنع بذلك. 

آلان: وهل كان الهامستر قد اختفى في الصباح؟ 

ميشيل: اختفى. 

فيرونيكا: وماذا عنكِ، في أي مجال تعملين؟ 

أنيت: أعمل في إدارة الثروات. 

فيرونيكا: هل من الممكن بأي حال من الأحوال، واعذروني لطرح سؤالي بهذه المباشرة والجرأة، أن يعتذر فيرديناند لبرونو؟ 

ألان: سيكون من المستحسن لو تحادثا معاً. 

أنيت: لزام عليه أن يعتذر يا ألان. يجب أن يعتذر عما اقترفه. 

ألان: أجل أجل، بالطبع. 

فيرونيكا: لكن هل هو آسف فعلاً؟ 

ألان: لقد أدرك الخطأ الذي ارتكبه. لكنه لم يستوعب بعد ما ينطوي عليه هذا الفعل. هو ما زال في الحادية عشرة من عمره. 

فيرونيكا: لا يمكن اعتبار من بلغ الحادية عشرة طفلاً. 

ميشيل: لكنه لا يمكن اعتباره ناضجاً أو مدركاً بعد. المعذرة لم نقدم لكم شيئاً، شاي أم قهوة، هل بقي شيء من الكلافوتي يا روني؟ إنها كلافوتي شهية للغاية!

ألان: لا أمانع في تناول بعض الإسبريسو.

أنيت: كأس من الماء لي لو سمحتِ. 

ميشيل: (متحدثاً إلى فيرونيكا أثناء خروجها من الغرفة) إسبريسو لي أيضاً يا عزيزتي، وأحضري بعض الكلافوتي بالمرة. (بعد فترة من الصمت) أنا أقول دائماً أن البشر هم مثل كتلة من الصلصال، وتعود مسؤولية الشكل الذي يتخذه كل شخص إلى ما تصنعه يداه بهذه الكتلة. ربما لن تتخذ كتلة الصلصال تلك أي شكل حتى النهاية، من يدري؟ 

آنيت: أممممم… 

ميشيل: يجب أن تتذوقوا قطعة من الكلافوتي. أصبح الكلافوتي المصنوع على أصوله جنساً مهدداً بالانقراض الآن. 

أنيت: معك حق. 

ألان: ما هي المواد التي تتعامل بها في تجارتك؟ 

ميشيل: أدوات منزلية، أقفال، مقابض أبواب، مكاوي للحام، كافة أنواع الأجهزة المنزلية، قدور، طوايات… 

ألان: وهل هي تجارة رابحة؟ 

ميشيل: في واقع الحال، هذا النوع من الأعمال ليس مجزياً إلى هذه الدرجة كما تعلم.  عانينا بعض الشيء في بداية المشروع. لكن كوني أحرص على الوجود على رأس عملي كل يوم لأرفع من حجم المبيع، وأروج أكثر للمنتجات، ما زلنا إلى الآن قادرين على الاستمرار. هذا على الرغم من أننا قد نجحنا في بيع الكثير من القدور في فترة التحضير لعيد الميلاد. 

ألان: أنا واثق من… 

أنيت: عندما رأيت الهامستر جالساً على قارعة الطريق، مذعوراً وعاجزاً عن الحركة، لماذا لم تعده معك إلى المنزل؟ 

ميشيل: لأنني لم أتمكن من الإمساك به. 

أنيت: لكنك أنت من وضعه هناك. 

ميشيل: لقد حملته وهو في قفصه، ويمكن القول إنني قد شجعته على الخروج منه. أنا لا أحتمل أن ألمس القوارض بيدي. 

تعود فيرونيكا إلى الغرفة حاملة صينية عليها بعض الكؤوس وحلوى الكلافوتي. 

فيرونيكا: لا أعلم من ذا الذي وضع الكلافوتي في الثلاجة. مونيكا تضع كل شيء تقع يدها عليه في الثلاجة دون أن يطلب منها أحد ذلك. ما الذي قاله فيرديناند لكم؟ سكر؟ 

ألان: لا شكراً. ماذا وضعتِ في داخل الكلافوتي؟ 

فيرونيكا: تفاح وإجاص. 

آنيت: تفاح وإجاص؟ 

فيرونيكا: تلك وصفتي السرية الخاصة. 

نراها تُقطع الكلافوتي إلى شرائح وتوزعها عليهم. 

ستكون باردة جداً، يا للخجل!

آنيت: تفاح وإجاص، يا لها من وصفة!  

فيرونيكا: كثيراً ما يُستخدم التفاح والإجاص معاً، لكن هناك خدعة صغيرة هنا. 

أنيت: خدعة؟ 

فيرونيكا: يجب أن يُقطّع الإجاص قطعاً أكثر سماكة من التفاح، ذلك أن الإجاص ينضج قبل التفاح. 

أنيت: هذا صحيح. 

ميشيل: لكنها لم تُفصح لكم عن سرها الحقيقي.

فيرونيكا: دعهم يجربونها. 

ألان: إنها شهية، شهية جداً. 

أنيت: شهية فعلاً. 

فيرونيكا:… فتات كعك الزنجبيل. 

آنيت: فكرة رائعة!

فيرونيكا: إنها الوصفة التي يعتمدونها في صنع الكلافوتي في بيكاردي. ولأكون صادقة معكم، فقد تعلمتها من أمه. 

ألان: كعكة الزنجبيل، شهية… حسناً، على الأقل خرجنا من كل هذا بوصفة شهية. 

فيرونيكا: كنت أفضل ألا يكون هذا قد كلّف ولدي اثنين من أسنانه. 

ألان: بالتأكيد، هذا ما عنيته. 

أنيت: يا له من أسلوب غريب للتعبير عن ذلك. 

ألان: ليس الأمر كما تظنيـ… 

يبدأ هاتفه الجوال بالاهتزاز، وينظر إلى شاشته. 

يجب أن أرد على هذه المكالمة… أجل يا موريس… لا لا، لا تطلب حقّ الردّ، أنت بذلك تغذّي الجدل القائم… هل يغطي التأمين في هذه الحالة؟ ما هي هذه الأعراض… ما هو الترنح؟ وماذا بخصوص الجرعة الاعتيادية؟ منذ متى وأنت تعلم ذلك؟ كل هذا الوقت ولم يخطر لك أن تخبرني بذلك؟ كم يبلغ إجمالي المبيعات؟ حسناً، أجل… فهمت… حسناً.

يُنهي المكالمة، وفي الحال يطلب رقم آخر دون أن يتوقف عن التهام الكلافوتي بنهم واضح. 

أنيت: هلا انضممت إلينا يا ألان؟ 

ألان: أجل أجل، دقيقة وأكون معكم… (يتحدث على الهاتف) سيرجي؟ كانوا على معرفة بالمخاطر منذ سنتين… تقرير داخلي، لكن لم ترد فيه أي إشارة إلى تأثيرات جانبية غير مرغوبة بشكل رسمي… كلا لم يتخذوا أي إجراءات وقائية، ليس لديهم تأمين، لم ترد ولا كلمة بخصوص ذلك في التقرير السنوي… خلل في القدرات الحركية، مشاكل على صعيد التوازن… باختصار تبدو حانقاً بشكل دائم… (يضحك الاثنان معاً)… إجمالي المبيعات مئة وخمسون مليون دولار… نكران شامل… الأحمق يريد أن يطالب بحق الرد، بالتأكيد لا نريد حقنا في الرد – على المقلب الآخر يمكننا ان ننشر مقالاً صحفياً في حال انتشرت القصة، قُل إن المقصود من ذلك هو نوع من التضليل قبل أسبوعين من اجتماع المساهمين… سيعاود الاتصال بي… حسناً. 

يُنهي المكالمة. 

في الواقع أنا لم أتناول غداءً جيداً. 

ميشيل: تفصّل، تفضّل. 

ألان: شكراً. أنا نيّق نوعاً ما. أين وصلنا في حديثنا؟ 

فيرونيكا: كنّا نقول إنه لكان من الأجمل لو التقينا في ظروف أفضل. 

ألان: أجل معكِ حق. 

إذا وصفة الكلافوتي هي من صنع والدتك؟ 

ميشيل: الوصفة لوالدتي لكن روني هي من أعدت هذه الكلافوتي. 

فيرونيكا: أمك لا تمزج الإجاص مع التفاح!

ميشيل: لا.

فيرونيكا: المسكينة ستخضع لعملية جراحية. 

أنيت: حقاً؟ أين؟

فيرونيكا: في ركبتها.

ميشيل: سيقومون بزراعة ركبة بديلة دوّارة مصنوعة من المعدن والبوليثيلين. وهي تتساءل الآن ما الذي سيبقى منها بعد أن تُحرق جثتها. 

فيرونيكا: كفاك سخفاً.

ميشيل: ترفض أن تُدفن بقرب والدي. تريد أن يتم حرق جثتها ووضعها قرب والدتها الموجودة وحدها في الجنوب. هكذا سنرى جرتان تنظران إلى البحر محاولتان الدخول في نقاش هادئ في قلب الصخب. (يضحك). 

يبتسمون جميعاً، ومن ثم يصمتون. 

أنيت: نحن ممتنون لكرمكم. ونقدر لكم مساعيكم لتهدئة الوضع، وعدم رغبتكم في تأزيمه. 

فيرونيكا: في الحقيقة، هذا أقل ما يمكننا فعله. 

ميشيل: أجل!

أنيت: لا أتفق معكِ. كم من الأهالي صغرّوا أنفسهم وارتكبوا العديد من التصرفات الصبيانية في محاولاتهم لتبرير تصرفات أبنائهم؟ أظن أنه لو كان برونو هو من حطم اثنين من أسنان فيرديناند، لكنا أنا وألان أكثر حساسية وعدائية تجاه هذا الموقف. وبصراحة لست واثقة من أننا كنا سنتعامل مع الموقف بهذه المرونة والعقلانية. 

ميشيل: انا واثق من أنكم كنتم ستتعاملون مع القضية بالعقلانية والتفهم نفسهما. 

ألان: هي على حق من دون شك. 

ميشيل: أجل بالتأكيد. فنحن جميعنا نعلم تماماً أنه من السهل كثيراً أن تكون الآية معكوسة، وأن يكون الجاني هو الضحية. 

فترة صمت.

فيرونيكا: إذا ما الذي قاله فيرديناند في هذا الخصوص؟ ما رأيه بالموقف ككل؟ 

أنيت: هو لا يقول الكثير. أظن أنه ما زال مصدوماً إلى حد ما مما حدث.

فيرونيكا: هل يدرك أنه قد قام بتشويه وجه صديقه في اللعب؟

ألان: لا لا… هو لا يدرك أنه قد شوّه وجه صديقه في اللعب. 

أنيت: لماذا تقول ذلك؟ فيرديناند يدرك ما يفعله جيداً. 

ألان: هو يدرك أنه تصرف كبلطجي، لكنه لا يدرك أنه قد شوّه وجه صديقه في اللعب. 

فيرونيكا: أنت لم تنتبه إلى الكلمة التي قلتها، لكنها صحيحة للأسف. 

ألان: ابني لم يشوّه وجه ابنكم. 

فيرونيكا: بل ابنك قد قام بتشويه وجه ابني. عُد في الخامسة وشاهد بعينيك فمه وأسنانه. 

ميشيل: تشوّه بشكل مؤقت. 

ألان: التورم في شفته سيزول تدريجياً، أما بالنسبة لأسنانه فيمكن أخذه إلى أفضل طبيب أسنان –  وأنا جاهز للمساهمة بمبلـ… 

ميشيل: هذا ما وجد التأمين الطبي لأجله. ما نريده هو أن يجتمع الطفلان ويتصالحا لكي نتفادى تكرار مواقف شبيهة بموقفنا هذا. 

أنيت: دعونا نرتّب لقاءً بينهما. 

ميشيل: أجل هذا هو الحل!

ألان: هل سنكون موجودين معهم أثناء اللقاء؟

ألان: ليسا بحاجة لمن يرشدهما ويعطيهما التعليمات. دعهما يلتقيان رجل لرجل. 

أنيت: رجل لرجل؟ كفاك سخفاً يا ألان. مع هذا ليس من الضروري وجودنا معهما. أعتقد أنه من الأفضل ألا نكون موجودين معهما، أليس كذلك؟ 

فيرونيكا: ليس السؤال ما إذا كنا يجب أن نكون موجودين معهما أم لا، السؤال هو هل يريدان التحدث إلى بعضهما أم لا؟ هل يريدان التعاطي معاً لحل هذه المشكلة؟ 

ميشيل: برونو مستعد لذلك.

فيرونيكا: وماذا عن فيرديناند؟

أنيت: لا فائدة من طلب رأيه!

فيرونيكا: لكن يجب أن تأتي المبادرة منه. 

أنيت: لقد تصرف فيرديناند كطفل مشاغب، وحالته المزاجية هي آخر ما يهمنا.

فيرونيكا: إذا أُجبر فيرديناند على لقاء برونو ضمن مناخ تأديبي، فإني لا أرى نتائج إيجابية لهذا اللقاء. 

ألان: سيدتي، ولدنا طفل همجي، وضرب من الخيال والعبث أن ننتظر منه أن يتوب ويشعر بخطئه من تلقاء نفسه. حسناً إذاً، اعذروني يجب أن أعود إلى المكتب. ابقي انتِ يا أنيت، وأخبريني ما الذي ستقررونه، أنا لست بذي فائدة هنا على أي حال. تظن النساء دائماً أنهن بحاجة إلى رجل، أكان زوجاً أم حبيباً أم أباً، وكأن الرجل مهما اختلفت صفته سيقدم لهن أي فائدة. الرجال هم أوزان بلا فائدة، جثث لا حياة فيها، فوضويون ويعوزهم التناسق والترتيب. يمكنني أن أرى أن خط المترو الفوق أرضي يصل إلى هنا، هذا رائع!

أنيت: أنا محرجة منكم للغاية، لكن أنا أيضاً لا أستطيع البقاء. ما كان زوجي يوماً أباً بمعنى الكلمة يدفع عربة ابنه، ويأخذه في نزهة، ويهتم به. 

فيرونيكا: يا له من شيء محزن. كم هو لطيف أخذ الطفل في نزهة. ونزهة الطفل لا تستمر إلا لوقت قصير. من الممتع دائماً الاهتمام بالأطفال، أليس كذلك يا ميشيل؟ أنت تحب أن تدفع عربة طفلك وتأخذه في نزهة. 

ميشيل: أجل.

فيرونيكا: إذاً، ما هو قرارنا؟ 

أنيت: هل يناسبكم ان تأتوا إلى منزلنا بصحبة برونو في السابعة والنصف؟ 

فيرونيكا: السابعة والنصف؟… ما رأيك يا ميشيل؟ 

ميشيل: في الواقع… لو تسمحون لي…

أنيت: تفضل.

ميشيل: أعتقد أن فيرديناند هو من يجب أن يأتي إلى هنا.

فيرونيكا: نعم، أتفق معك.

ميشيل: لا أعتقد أنه من اللائق أن أن يذهب المجني عليه إلى الجاني.

فيرونيكا: هذا صحيح.

ألان: أنا شخصياً أستطيع أن أكون حيث تريدون لي في السابعة والنصف.

أنيت: بما أنك لا تقدّم ولا تؤخّر، فلن نكون بحاجة إليك. 

فيرونيكا: مع ذلك أظن أنه من الأفضل ان يكون والده موجوداً معنا. 

يبدأ هاتف ألان بالاهتزاز. 

ألان: حسناً إذاً، لكن في هذه الحالة لا يمكن لهذا اللقاء أن يحدث مساء اليوم، ألو، من المتكلم؟ لا يوجد إشارة إلى ذلك في التقرير التنفيذي. ولم تتم الإشارة إلى أي خطر بشكل رسمي. لا يوجد دليل… 

يُنهي المكالمة. 

فيرونيكا: غداً؟ 

ألان: يجب أن أكون في لاهاي غداً. 

فيرونيكا: هل تعمل في لاهاي؟ 

ألان: عندي قضية في المحكمة الجنائية الدولية. 

أنيت: الشيء المهم هنا هو أن يتحدث الطفلان إلى بعضهما البعض. سآتي بصحبة فيرديناند في السابعة والنصف، ويمكننا عندها أن نتركهما معاً ليتحدثا معاً بما حدث، ما رأيكم؟ لا يبدو أنكم مقتنعون بذلك.

فيرونيكا: إذا لم يبين أحد لفيرديناند مسؤوليته في هذا الموقف، والخطأ الذي ارتكبه، فسيجلسان قبالة بعضهما ناظراً كل منهما إلى الآخر وكأنهما زوج من الكلاب الصينية، وسينتهي الموضوع بكارثة. 

 ألان: ما الذي تقصدينه يا سيدتي؟ ما قصدك بقول “يبين له مسؤوليته والخطأ الذي ارتكبه”؟ 

فيرونيكا: أنا واثقة من أن ابنك ليس همجياً. 

أنيت: طبعاً ليس همجياً. 

ألان: بل هو همجي. 

أنيت: ألان، هذا سخيف! ما الذي يجعلك تقول شيئاً كهذا؟ 

ألان: لأنه همجي. 

ميشيل: كيف يبرر تصرفه هذا؟ 

أنيت: هو لا يريد أن يناقش الموضوع مع أحد. 

فيرونيكا: لكن لزام عليه أن يناقشه. 

ألان: سيقوم بكل ما يجب عليه القيام به يا سيدتي. سيأتي إلى هنا، وسيناقش فعلته، وسيتأسف ويعتذر عما فعله، من الواضح أن لديكم خبرة في التربية تفوق خبرتنا وتجعلنا نبدو أغراراً في حضرتكم، نحن نأمل أن نصبح أفضل، لكن ليس أمامكم في الوقت الحاضر إلا أن تحتملوا قلة خبرتنا وتقصيرنا. 

 

ميشيل: اهدأ الآن! هذا ضرب من الحُمق. دعونا لا ننهي حديثنا بهذا الشكل. 

فيرونيكا: أنا أفكر به، أنا أفكر بفيرديناند فقط. 

ألان: فهمت قصدكِ. 

أنيت: دعونا نجلس ونتباحث لمزيد من الوقت. 

ميشيل: المزيد من القهوة؟ 

ألان: قهوة؟ لم لا!

أنيت: أنا أيضاً أريد بعض القهوة. شكراً. 

ألان: حسناً، أنا سأُعدّها يا روني. 

فترة من الصمت. تقوم أنيت بكل عناية بإبعاد بعض كتب الفن الكثيرة المنثورة على الطاولة. 

أنيت: أرى أنك مهووسة بالفن. 

فيرونيكا: الفن والتصوير الفوتوغرافي. تستطيعين القول أنهما جزء من عملي. 

أنيت: أنا أعشق بيكون. 

فيرونيكا: آه، أجل بيكون. 

أنيت: (تقلّب في الصفحات)… قسوة. فخامة. 

فيرونيكا: فوضى. توازن. 

أنيت: هذا صحيح… 

فيرونيكا: وهل الفن من اهتمامات فيرديناند. 

أنيت: ليس كما ينبغي… ماذا عن أطفالكم؟

فيرونيكا: ها نحن نحاول… نحاول ان نملأ الثغرات الموجودة في النظام التعليمي. 

أنيت: أجل 

فيرونيكا: نحاول أن نجعلهم يقرأون. أن نأخذهم إلى الحفلات الموسيقية والمعارض. نحن مختلفون ومتطرفون بما يكفي لنؤمن بما للثقافة من قدرة على تهذيب النفوس. 

___________________________________

من مسرحية “إله المجزرة” التي حققت نجاحات كبيرة على خشبات العديد من المسارح حول العالم، وحولت إلى فيلم بعنوان “مجرزة” إخراج رومان بولانسكي، للقراءة عن الفيلم يرجى الاطلاع على زاوية “سينما”،  للتعرف أكثر على الكاتبة ياسمينا رضا عليكم بالمقابلة المنشورة ضمن مواد هذا العدد بعنوان ” ياسمينا رضا: التفاهة رغوة تطفو فوق الأعماق”.

الصورة للفوتوغرافية التركية ايبرو جيلان Ebru Ceylan

*****

خاص بأوكسجين