إله اسمه كلمة
العدد 172 | 04 أيار 2015
إدواردو غاليانو/ ترجمة: أدهم عبدالله


 

ذاكرة على الأرجل

(3 كانون الأول/ يناير)

 

في اليوم الثالث من العام 47 قبل الميلاد، تحوّلت أشهر مكتبة في العصور الغابرة إلى رماد.

بعد أن غزت الفيالق الرومانية مصر، خلال إحدى المعارك التي خاضها يوليوس قيصر ضد شقيق كليوباترا، التهمت النيران معظم لفائف البُردي التي كانت تُقدّر بالآلاف المؤلّفة في مكتبة الاسكندرية.

بعد ألفي عام من ذلك التاريخ، غزت الجحافل الأمريكية العراق خلال حملة جورج دبليو بوش التي قادها ضد عدوّ كان في مخيّلته فقط، آلاف آلاف الكتب التي كانت تحتضنها مكتبة بغداد تحوّلت إلى رماد.

لم تسلم الكتب من الضياع والحرائق عبر تاريخ البشرية الحافل بالحروب والدمار، إلى أن أتى الوزير الأكبر عبد القاسم اسماعيل في بلاد فارس، مع نهاية القرن العاشر بفكرة “المكتبة المتنقّلة”

أبقى هذا الرحّالة الحكيم والدؤوب مكتبته معه. مائة وسبعة عشر ألف كتاب على ظهر أربعمائة جمل شكّلوا قافلة تمتد على طول ميل. كانت الجمال على شكل فهرس، فقد تم ترتيبها وفقاً لاسم الكتب التي تحملها، كلّ قطيع من الجمال يتألف من اثنين وثلاثين جملاً وهي عدد أحرف الأبجدية الفارسية.

***

 

الأم الحضارية

(23 كانون الأول/ يناير)

 

شهدت لندن حفل تشييع مهيب، عقب وفاة الملكة فيكتوريا عام 1901.

لم يكن التنظيم أمراً سهلاً، فهذا الحفل الوداعي لم يكن لمجرّد ملكة، ولكن كان وداعاً لامرأة أعطت اسمها لعصرٍ كامل من الزمن ووضعت معايير زهد النساء، حيث لم تغيّر لون لباسها الأسود لأربعين عاماً حزناً على ذكرى زوجها المتوفى.

فيكتوريا هي رمز للإمبراطورية البريطانية، سيدة وعشيقة القرن التاسع عشر، فرضت الأفيون على الصين وعلى شعبها الفضيلة.

عملت من بلاط حكمها على تعليم وتشجيع القراءة لأنها آمنت أنها السبيل إلى حسن الخلق والسلوك الجيّد. أسّست كتاب “السيدة غوف” للإتيكيت الذي نُشر عام 1863 والذي وضع بعضاً من الوصايا الاجتماعية في ذاك الوقت: فعلى سبيل المثال، من الواجب تجنّب، التقارب غير المقبول لكتب المؤلفين الذكور وكتب المؤلفين الإناث على رفوف المكتبات.

من الممكن أن تجتمع هذه الكتب بعضها البعض إن كان الكُتّاب متزوجين، مثل روبيرت براونينج وإليزابيث باريت براونينج.

***

 

العالم يتقلّص

(21 شباط/ فبراير)

 

اليوم، هو اليوم العالمي للغة الأم.

هناك لغة تموت كلّ أسبوعين.

يتضاءل العالم عندما يفقد البشر قدرتهم على الكلام، تماماً كما يفقد تنوّعه النباتي والحيواني.

توفّيت أنجيلا لوجي عام 1974. كانت آخر “هنود أونا” من تييرا دي فويخو، هذا المكان المنسي في هذا العالم، توفيّت وأخذت معها لغتها التي كانت آخر من يتكلّم بها في هذا العالم.

كانت أنجيلا تغنّي لنفسها فقط، تغنّي بهذه اللغة التي لن يستطيع أحدٌ آخر التكلّم بها بعد الآن:

سائرة على الخطى

خطى من رحلوا.

ضائعة، أحقّاً أكون.

عبدت “الأونا” في قديم الزمان، آلهة مختلفة. ولكن إلههم الأكبر كان اسمه “بيمولك”

بيمولك كانت تعني “كلمة”

***

 

ترّهات الشهرة

(23 نيسان/ أبريل)

يُصادف اليوم، يوم الكتاب العالمي، لا ضرر إن أعدنا التذكير بأن التاريخ الأدبي هو عبارة عن مفارقات متواصلة.

ما هو أكثر المشاهد شهرة في الإنجيل؟ آدم وحوّاء يقضمون التفّاحة. لم يتم ذكره.

أشهر ما قاله أفلاطون لم يكن مكتوباً: “الأموات هم وحدهم من شهدوا نهاية الحرب”.

دون كيخوته دي لامانشا لم يقل أبداً: “دع الكلاب تنَيح يا سانشو، فهي دليلٌ على نجاحنا.”

“أنا لا أتّفق مع ما تقوله، ولكنّي سأدافع عن حقّك في الكلام حتى الرمق الأخير.” من أشهر الأقوال التي عُرفت عن فولتير ولكنّه لم يكتبه أو يقله حتى.

لم يكتب جورج فيلهيلم فريدريك هيغل أبداً: “النظرية رمادية، ولكن يا صديقي الأخضر هو شجرة الحياة”.

شيرلوك هولمز لم يقل أبداً: “الأساسي، يا عزيزي واطسون.” 

لم ترد في كتب لينين أو كرّاساته عبارة: “الغاية تبرر الوسيلة.”

لم يكن بيرتولد بريشت مؤلّف قصيدة لطالما تم اقتباسها: “في البدء جاؤوا من أجل الشيوعيين/ لم أتكلم رافعا صوتي لأنني لم أكن شيوعياً..”

كما أن خورخي لويس بورخيس لم يكن مؤلف قصيدته الشهيرة: لو عشت حياتي مجدداً/ لاقترفت المزيد من الأخطاء…”

***

 

مخاطر النشر

(24 نيسان/ أبريل)

 

قامت حكومة جواتيمالا ولأول مرة عام 2004 بكسر قانون حصانة الحكومة ومعاقبتها، وصرّحت للعلن أنه تمّ قتل ميرنا ماك بأمرٍ من رئيس البلاد.

قامت ميرنا ببحثٍ محظور، ولم تهتم بالتهديدات التي وصلتها، ذهبت إلى أعماق الغابات والجبال لتبحث عن المنفيين داخل بلادهم، وهم السكّان الأصليون الناجون من المذابح التي قام بها الجيش. وجمعت أصواتهم.

في عام 1989 وأثناء أحد اجتماعات علماء الاجتماع، اشتكى أحد العلماء الأمريكيين من الضغوط التي تمارسها الجامعات من أجل الاستمرار في الإنتاج فقال: “في بلدي إن لم تنشر تموت”

فردّت عليه ميرنا وقالت”في بلدي إن نشرت، تموت.”

هي نشرت

فطعنوها بالسكاكين حتى الموت.

***

طبيعة غير صامتة

(5 حزيران/ يوليو)

 

حيوات صامتة يرسمها الواقع.

توصف الكوارث بالطبيعية، كما لو أن الطبيعة هي الجلاد وليست الضحية. 

وبينما يفقد المناخ صوابه نقوم نحن أيضاً بالشيء ذاته.

اليوم هو يوم البيئة العالمي. يومٌ جيّد للاحتفال بدستور الإكوادور الجديد، حيث ولأول مرّة في التاريخ تعتبر البيئة، مادة لها حقوقها في هذا الدستور وكان ذلك عام 2008.

يبدو غريباً بعض الشيء أن تعتبر الطبيعة مفهوماً له حقوق كما لو أنها شخص. ولكن في الولايات المتّحدة يعتبر أمراً طبيعياً تماماً أن للشركات الكبيرة حقوق إنسان. إنها كذلك وبقرار من المحكمة العليا منذ العام 1886.

لو كانت الطبيعة مصرفاً، لأنقذوها في الحال.

_____________________________________________

إدواردو غاليانو  باحث وروائي وصحفي أوروغواياني، ولد عام 1940 وتوفي في 13 نيسان/ أبريل 2015. المقاطع مأخوذة من كتابه “أولاد الأيام: تقويم تاريخ الإنسان ” 2013.

الصورة للفوتوغرافي التشيلي سيرجيو لاراين Sergio Larrain

*****

خاص بأوكسجين