إخفاق منظومة تعدد الثقافات 2 – 2
العدد 181 | 24 تشرين الأول 2015
كنان مالك


لم تجعل سياسات المجلس، إذا صحّ التعبير، الناس أكثر تعصّباً لهويّات معيّنة فحسب، بل دفعتهم إلى الاستياء من المجموعات الأخرى واعتبارها منافسةً لهم على السّلطة والنّفوذ. كان على هويّة الفرد أن تكون سمته المميّزة عن الهويّات لأخرى: فأن تكون بنغلاديشيّاً في برمنغهام يعني أنّك لست آيرلنديّاً، لست من السّيخ، ولست إفريقيّاً من الكاريبي أيضاً. وكانت النتيجة ظهور المصطلح الّذي أطلقه عالم الاقتصاد أمارتيا سن “الثقافة الأحاديّة الجمعيّة”– سياسة تدّعي أن المجتمع قائم على ثقافات متميّزة وموحّدة تدور حول بعضها البعض. وقد أفضت في برمنغهام إلى ترسيخ الانقسامات بين مجتمعات السّود والآسيويين إلى درجة أنّ هذه الانقسامات تطوّرت إلى عنف طائفيّ.

مقسّمة وغير مُنصفة

بدلاً من الترحيب بالمهاجرين على أساس المساواة، تعامل السّاسة الألمان مع ما كان يسمّى بالمشكلة التركيّة وفق سياسة التعدديّة الثقافيّة.

طريق ألمانيا باتجاه التعدديّة الثقافيّة كان مختلفاً عمّا كان عليه في المملكة المتّحدة، إلّا أن نقطة البداية كانت هي نفسها. وكما العديد من دول أوروبا الغربيّة، واجهت ألمانيا نقصاً هائلاً في اليد العاملة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية فسارعت إلى توظيف اليد العاملة الأجنبيّة. وعلى خلاف المملكة المتّحدة، لم يأت هؤلاء العمال الجدد من مستعمرات سابقة بل من دولِ حوض البحر المتوسط: في البداية كانوا من اليونان، إيطاليا، وإسبانيا، ثمّ من تركيا. ولم يأتِ هؤلاء بصفة مهاجرين، كما أنهم بالتأكيد ليسوا مواطنين محتملين، بل أطلق عليهم اسم (العمّال الضيوف)، والّذين كان من المفترض أن يرجعوا إلى بلدانهم الأصلية عندما لا يعود الاقتصاد الألماني بحاجةٍ إلى خدماتهم.

مع مرور الوقت، انتقل هؤلاء العمّال الضيوف، الّذين في معظمهم من الأتراك، من كونهم ضرورة مؤقّتة إلى وجود دائم. ويعود ذلك من جهة إلى أنّ ألمانيا استمرّت في الاعتماد على جهودهم، ومن جهةٍ أخرى إلى أنّ العديد من هؤلاء المهاجرين، وبخاصّة أبناؤهم، وجدوا في ألمانيا وطناً لهم. مع ذلك فقد استمرّت الحكومة الألمانيّة في التعامل معهم كغرباء ورفضت منحهم الجنسيّة.

وكانت الحصول على الجنسيّة الألمانيّة، حتّى وقت قريب، يعتمد على مبدأ حقّ الدّم، حيث يحقّ للفرد أن يطالب بالجنسيّة الألمانيّة فقط في حال كان أحد والديه مواطناً ألمانيّا. وهذا لا يعني فقط استبعاد الجيل الأوّل من المهاجرين بل أيضاً أطفالهم الّذين وُلدوا في ألمانيا. وفي عام 1999، تمّ سنّ قانون الجنسيّة الجديد الّذي سهّل للمهاجرين أمر الحصول على الجنسيّة. ومع ذلك فإن العديد من الأتراك لم يحصلوا عليها. حيث أنّه من بين 3،000،000 شخص من أصل تركي في ألمانيا اليوم، فإنّ 800،000 منهم فقط تمكّنوا من الحصول على الجنسيّة.

بدلاً من الترحيب بالمهاجرين على أساس المساواة، تعامل السّاسة الألمان مع ما كان يسمّى بالمشكلة التركيّة وفق سياسة التعدديّة الثقافيّة. بدايةً في ثمانينيّات القرن الماضي، حين شجّعت الحكومة الألمانيّة الأتراك على الحفاظ على ثقافتهم، لغتهم، وعاداتهم. لم تظهر هذه السياسة الكثير من الاحترام للتنوّع كوسيلة ملائمة لتجنّب مسألة إنشاء ثقافة شاملة ومشتركة. ونتيجةً لذلك ظهرت مجتمعات موازية.

كان الجيل الأوّل من المهاجرين علمانيين بغالبيّتهم، وبالنسبة لأولئك الّذين كانوا متدينين فلم يكونوا متشدّدين في معتقداتهم وممارساتهم. أمّا اليوم فقرابة ثلث الرّاشدين من الأتراك في ألمانيا يتردّدون بصورة منتظمة على المساجد، وهذا معدّل أكبر من كل الجاليات التركيّة الموجودة في أوروبا الغربيّة، وحتّى أكثر من مناطق كثيرة في تركيا ذاتها. وبالمثل، فإنّ القسم الأكبر من نساء الجيل الأول من الأتراك لم يتقيّدوا بارتداء الحجاب؛ أمّا اليوم فالكثير من بناتهم يرتدينه. ومع غياب الحافز للاختلاط بالمجتمع الألماني، لم يتكبّد الكثير من الأتراك عناء تعلّم اللغة الألمانيّة.

وفي الوقت عينه الّذي أظهرت فيه سياسات التعدديّة الثقافية الألمانيّة لا مبالاة تجاه انخراط الأتراك في المجتمع الألماني، قادت إلى زيادة عداء الألمان للثقافة التركيّة.

والفكرة العامّة عما يعنيه أن تكون ألمانيّاً جرى تعريفها، من ضمن أمور أخرى، كمعارضة لقيم ومعتقدات مجتمع المهاجرين. وقد أظهر استطلاع أجرته المؤسّسة الانتخابيّة الفرنسيّة Ifop في عام 2011، أن 40% من الألمان يعتبرون وجود المجتمعات الإسلاميّة “تهديداً” لهويّتهم الوطنيّة. كما أشار استطلاعٌ آخر للرّأي، كانت قد أجرته جامعة بيليفيلد في عام 2005، إلى أنّ ثلاثة من أصل كل أربعة ألمان يعتقدون أنّ الثقافة الإسلاميّة لا تنسجم مع المجتمع الغربيّ. وقد أخذت جماعات معادية للإسلام، كحركة وطنيّون ألمانيّون ضدّ أسلمة الغرب، أو “بيغيدا”، بالظهور، كما اجتاحت الاحتجاجات المناهضة للهجرة مختلف المدن في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي واعتبرت الأكبر في الفترة الأخيرة. كما اتّخذ الكثير من السّياسيّن، بما فيهم ميركل، موقفاً حازماً من الحركات المعادية للإسلام. إلّا أنّ الضّرر كان قد حصل بالفعل.

سياسة التعاقد الباطني

فشلت حكومات كلّ من المملكة المتّحدة وألمانيا في تقدير مدى تعقيد مفهوم الهويّة. فالهويّات الشخصيّة تنشأ من العلاقات –وليس بالضرورة من العلاقات الشّخصيّة بل تلك الاجتماعيّة أيضاً وهي في تغيّر مستمر.

هويّة الجماعة ليست فطريّة؛ بل مكتسبة ومنشؤها هو التفاعل الاجتماعي.

لنأخذ الهويّة الإسلاميّة، على سبيل المثال. فاليوم تدور الكثير من الأحاديث في البلدان الأوروبيّة عما يسمّى بالمجتمع الإسلامي، عن أفكاره، احتياجاته، وأهدافه. لكنّ المفهوم بحدّ ذاته جديد كليّاً. فحتّى أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، اعتبر القليل من المهاجرين المسلمين في أوروبا أنفسهم تابعين لمجموعات كهذه. ولم يكن ذلك بسبب قلّة عددهم. فعلى سبيل المثال في كلّ من فرنسا، ألمانيا، والمملكة المتحدة، كان هناك بالفعل عدد كبير من الجاليات الجنوب آسيويّة والشمال إفريقيّة، والتركيّة الّتي وجدت هناك قبل ثمانينيّات القرن الماضي.

كان الجيل الأوّل من المهاجرين من شمال إفريقيا إلى فرنسا علمانيين بشكل عام، كما كان حال الجيل الأول من المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا. وعلى النقيض من ذلك، فالفوج الأول من المهاجرين من شمال إفريقيا الذين وصلوا إلى المملكة المتّحدة عقب الحرب العالميّة الثانية كانوا أكثر تديّناً. إلّا أنهم في البداية لم يعتبروا أنفسهم مسلمين بل بنجاب أو بنغاليين أو سيلهيتيين ( من مدينة في شمال شرق بنغلاديش ). وعلى الرغم من كونهم متدينيين، لم يكونوا متشدّدين. فالعديد من الرّجال كانوا يشربون الكحول. وفقط القليل من النساء ارتدين الحجاب، ناهيك عن البرقع أو النقاب. معظمهم كانوا يزورون المساجد في المناسبات فقط. حيث لم يكن الإسلام بنظرهم، فلسفة شاملة. حيث أنّ إيمانهم عرّف علاقتهم بالخالق وليس بالناس.

قليلاً ما عرّف أفراد الجيل الثاني من البريطانيين ذوي الخلفيّات الإسلاميّة عن أنفسهم بحسب ديانتهم. كذلك كان الأمر بالنسبة لأولئك الّذين كان آباؤهم من الهندوس أو السّيخ. حيث أنّ المنظمات الدينيّة كانت بالكاد موجودة ضمن مجتمعات الأقليّات. فالمنظمات التي ربطت المهاجرين ببعضهم البعض كانت في الأعمّ الأغلب علمانيّة وكان بعضها ذو أهداف سياسيّة؛ ففي المملكة المتّحدة على سبيل المثال، كان هناك حركات الشباب الآسيوي، التي وقفت بوجه العنصريّة، وجمعيّة العمال الهنود، التي كان تركيزها الأكبر على حقوق العمال.

فقط في أواخر ثمانينات القرن الماضي أصبحت مسألة الاختلاقات الثقافيّة أمراً مهماً. والمثير للسّخرية، أنّ جيلاً  أكثر تماسكاً يمتلك سمات غربية أكثر من الّذي سبقه، تحوّل ليصبح أكثر إصراراً على حفظ تميّزه المزعوم. وأسباب هذا التحوّل متشابكة. فهي تعود بشكل جزئي إلى شبكة معقّدة من التغيّرات الكبيرة سواء الاجتماعيّة منها أو السياسيّة أو الاقتصاديّة خلال نصف القرن الماضي، كسقوط اليسار ونهوض سياسات الهويّة. كذلك تعود إلى التطوّرات الدّوليّة، كالثورة الإيرانيّة عام 1979 وحرب البوسنة في أوائل التسعينيات، كلّ منها لعب دوراً هامّاً في تعزيز النّزعة الإسلاميّة في أوروبا. ومن جهة أخرى أيضاً تعود إلى سياسات التعدديّة الثقافيّة في أوروبا.

بالنسبة للهويات الجمعيّة، فهي ليست فطرية؛ بل مكتسبة وهي نتيجة للتفاعل الاجتماعي. إلّا أنه في الوقت الّذي لاقت فيه هذه الفئات الثقافيّة قبولاً رسميّاً، فإنّ بعضها أخذت تبدو ثابتة. حيث أنّه أثناء توجيه الموارد الماليّة والقوة السياسيّة عبر المنظمات ذات الأساس العرقي، قامت الحكومات الأوروبيّة بمنح شكل من أشكال الأصالة لمجموعة من الهويات العرقيّة دون الأخرى.

تسعى سياسات التعدّدية الثقافيّة إلى بناء جسر بين الحكومة والأقليّات من خلال إيجاد منظمات مجتمعيّة وقادة معينين للعمل كوسطاء. وبدلاً من استمالة المسلمين والأقليات الأخرى، لجأ السياسيّون إلى الاعتقاد بإنّ ولاء الأقليّات الحقيقي هو لما يؤمنون به أو لجماعتهم العرقيّة. وفي الواقع، فقد أحالت الحكومات مسؤوليّاتها السياسيّة إلى زعماء الأقليّات.

ومع ذلك فإن هؤلاء الزّعماء، نادراً ما مثّلوا مجتمعاتهم. وليس هذا بالأمر المفاجئ: إذ لا يوجد فريق أو مجموعة من الزّعماء تستطيع أن تمثّل مجتمعاً واحداً من مجتمعات البيض. فبعض الأوروبيين البيض محافظون، الكثير منهم ليبراليّون، كما أنّ بعضهم ما زال شيوعيّاً أو من الفاشيّين الجدد.  وقسمٌ كبيرٌ من البيض لا يجد في مصلحته أن يطلق عليه “البيض” فمسيحيّ أبيض لديه قواسم مشتركة مع مسيحي أسود أكثر مما هي عليه مع ملحد أبيض؛ واشتراكي أبيض سيكون تفكيره أقرب إلى تفكير اشتراكيّ ما من بنغلاديش، ممّا هو عليه مع محافظ أبيض؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمسلمين والسّيخ والكاريبيين من أصل إفريقي؛ وهنا يكمن العيب الجوهري في مبدأ التعدديّة الثقافيّة.

استيعاب الحاضر

تعتبر السّياسة الاستيعابيّة الفرنسيّة بوجه عام نقيضةً للتعدّدية الثقافيّة، التي رفضها سياسيّوا فرنسا بفخر. وخلافاً لبقيّة أوروبا، فقد أصرّت فرنسا على التعامل مع كلّ فرد على أنّه مواطن لا على أنّه عضو في جماعة عنصريّة، عرقيّة، أو ثقافيّة محدّدة. إلّا أنّ الواقع، هو أنّ فرنسا مقسّمة اجتماعيّاً كما هو حال ألمانيا أو المملكة المتّحدة، وبطريقة مشابهة لافتة للنّظر.

تساؤلات كثيرة دارت حول السياسة الاجتماعيّة الفرنسيّة، والانقسام الاجتماعي في البلاد، وتركّز ذلك بشكل كبير في باريس في كانون الثاني/ يناير الماضي، عندما قام مسلّحون إسلاميّون بقتل 12 شخصاً في مكاتب المجلّة السّاخرة تشارلي إيبدو وأربعة يهود في سوبرماركت يهوديّ.  وقد حمّل السياسيّون الفرنسيّون لفترة طويلة سياسات التعدديّة الثقافيّة مسؤوليّة إيواء جهاديين محليين في المملكة المتّحدة. والآن عليهم إيجاد أجوبة تبرّر الأحداث التي جرت في فرنسا الاستيعابيّة.

لطالما زُعم وجود قرابة خمسة ملايين مسلم في فرنسا – وتمّ اعتبارهم أكبر جالية مسلمة في أوروبا الغربيّة. ولكن في الواقع، فإن ذوي الأصول الشمال إفريقيّة في فرنسا، والّذين تمّ شملهم ضمن هذه المجموعة، لم يشكّلوا مجتمعاً واحداً، فهم أقلّ تديّناً. وكانوا في الغالب علمانيين، بل أنهم أحياناً كانوا معادين للدين. وقد أظهر تقرير أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2006 أنّ 42% من المسلمين في فرنسا عرّفوا عن أنفسهم بدايةً كمواطنين فرنسيين –بشكل أكبر مما كان في ألمانيا، إسبانيا أو المملكة المتّحدة. وفي السنوات الأخيرة زاد عدد المنجذبين إلى الإسلام. ولكن حتّى في الوقت الحاضر، بناءً على دراسة أجرتها المؤسّسة الانتخابيّة الفرنسيّة Ifop في عام 2011، فإنّ 40% فقط عرّفوا عن أنفسهم كمسلمين بالديانة، و 25% فقط يتوجهون إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة.
 

كذلك فإنّه غالباً ما وُصف ذوو الأصول الشمال إفريقيّة في فرنسا كمهاجرين. في الواقع، إن الغالبيّة، هم من الجيل الثاني من المواطنين الفرنسيين، الّذين وُلدوا في فرنسا ولا يقلّون شأناً عن أيّ مناصر للجبهة الوطنيّة. ومع ذلك لم يكن استخدام مصطلح “مسلم” أو “مهاجر” كتصنيف للمواطنين الفرنسيين ذوي الأصول الشمال إفريقيّة محض صدفة. بل هو جزء من العمليّة التي تقوم فيها الحكومة بعزل هؤلاء المواطنين عن غيرهم وعدم اعتبارهم جزءاً فعلياً من الأمّة الفرنسيّة.

وكحالهم في المملكة المتّحدة، فقد واجه الجيل الأوّل من المهاجرين عقب الحرب العالميّة الثانية معاملة عنصريّة واضحة في فرنسا، إلّا أن الجيل الثاني لم يكن على استعداد لقبول أي شكل من أشكال التمييز الاجتماعي، البطالة أو سوء معاملة الشرطة. فتنظّموا، بشكل غالب في منظمات علمانيّة، وخرجوا إلى الشارع، غالباً بشكل مظاهرات احتجاج عنيفة. وقد كشفت أعمال الشّغب الّتي اجتاحت المدن الفرنسيّة في خريف عام  2005 عن القلقلة الموجودة في المجتمع الفرنسي، كما فعلت تلك التي اجتاحت المدن البريطانيّة قبل عقدين من الزّمن.

في الفترة الممتدّة من سبعينيّات وحتّى أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، كان موقف السلطات الفرنسيّة متراخياً نسبيّاً تجاه التعدديّة الثقافيّة، مستهينةً بشكل عام بالاختلافات الثقافيّة والدينيّة في وقت أعرب فيه القليل من أفراد مجتمعات الأقليّات عن هويّاتهم من النّاحية الثقافيّة أو الدينيّة. حتّى أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران صاغ شعاره الشّهير le droit à la difference (الحقّ في الاختلاف). وبسبب ارتفاع حدّة التوترات وتكشفها داخل المجتمعات الشمال إفريقيّة، وظهور الجبهة الوطنيّة كقوّة سياسيّة، تخلّت باريس عن هذا الأسلوب لتتّخذ موقفاً أكثر تشدّداً.

هذا وقد تُرجمت أعمال الشّغب والسّخط الّذي رافقها، في العام 2005 ، كتهديد الإسلام المتنامي لفرنسا وليس كردّ فعل على العنصريّة. ومن حيث المبدأ، فقد قامت السلطات الفرنسيّة برفض نهج التعدديّة الثقافيّة للمملكة المتّحدة. لكن من الناحية العمليّة، فقد عاملوا المهاجرين من شمال إفريقيا وذريّتهم بطريقة “التعدّدية الثقافيّة” –كمجتمع واحد، وقبل كلّ شيء كمجتمع إسلاميّ. وقد جاءت المخاوف المتعلّقة بالإسلام لتعكس القلق الكبير حول أزمة القيم والهويّة التي تعصف الآن بفرنسا.

وجاء في الاستطلاع الّذي أجرته مجموعة الأبحاث الفرنسيّة Ipsos ومركز الأبحاث السّياسة، أو CEVIPOF، في معهد الدّراسات السّياسيّة في باريس (المعروف بمعهد العلوم السياسيّة) في عام 2013 والّذي كان مثاراً للنقاش، أن 50% من السكان الفرنسيين يعتقدون أنّ “التراجع” الاقتصادي والثّقافي في بلادهم أمرٌ “لا مفرّ منه”. وأقل من الثلث اعتبروا أن الديمقراطيّة الفرنسيّة تعمل بشكل جيّد، وقال 62% منهم أنّ “معظم” السياسيين “فاسدين”. ووصف تقرير الاستطلاع أن فرنسا تعاني من قلقلة، وأنّها مقسّمة، تتجنّب الحياة السّياسيّة، تفتقر إلى الثقة بالقادة الوطنيين، ومستاءة من المسلمين. وأنّ الشعور الرّئيسي الّذي يسيطر على المجتمع الفرنسي،كان في خلاصة التقرير، هو “الخوف”.

إنّ سياسات التّعددية الثقافية في المملكة المتّحدة كانت اعترافاً بمجتمع أكثر تقسيماً ومصدراً له. وقد أفضت سياسات الاستيعاب في فرنسا، للمفارقة، إلى النتيجة نفسها. وفي مواجهة الشعب الّذي فقد الثّقة بهم، حاول السياسيون الفرنسيّون إعادة صياغة هويّة فرنسيّة مشتركة. إلّا أنهم لم يستطيعوا إعطاء تعريف واضح للأفكار والقيم التي تميّز البلاد، وقد قاموا بذلك في البداية عن طريق غرس بذور العداء للرموز الأجنبيّة –كحظر البرقع في عام 2010، على سبيل المثال.

بدلاً من الاعتراف بذوي الأصول الشمال إفريقية كمواطنين فعليين، اتّجهت السّياسة الفرنسيّة إلى تجاهل العنصريّة والتمييز الّذي تعرّضوا له. لم يعتبر الكثيرون في فرنسا أنّ المواطنين من ذوي الأصول الشمال إفريقيّة هم فرنسيون، بل اعتبروهم عرباً أو مسلمين. ولكنّ الجيل الثاني من الشمال إفريقيين غالباً ما ابتعدوا عن ثقافة وأعراف آبائهم –وعن التيّار الإسلامي –كما لو أنّهم أبناء المجتمع الفرنسي. وليسوا عالقين بين ثقافتين مختلفتين، كما يزعم البعض غالباً، بل دون أحدها. وكنتيجة لذلك، اتّجه بعضهم إلى التيارات الإسلاميّة، والقليل منهم عبّروا عن غضبهم من خلال العنف الجهادي.  

وفي الوقت نفسه، زادت السياسات الاستيعابيّة الفرنسيّة شعور التهميش في مجتمعات الطّبقة العاملة. وقد أطلق الجغرافيّ الاجتماعي كريستوف جويللوي عبارة “فرنسا الهامشيّة” لوصف هؤلاء النّاس “الّذين أُبعدوا بسبب تراجع الصّناعة وتطوير المراكز الحضريّة”، والّذين “عاشوا بعيداً عن المراكز الاقتصاديّة وصنع القرار، في حالة عدم اندماج اجتماعي،” وجعلوا هؤلاء يشعرون بأنهم “مستبعدون”. ” هذا وقد ظهرت فرنسا الهامشيّة بشكل رئيسي كنتيجة للتطورات الاقتصاديّة والسّياسيّة. ولكن على غرار الكثير من الجاليات الشمال إفريقيّة، كان عليها رؤية التهميش الّذي تتعرض له من خلال منظور الهويّة الثقافيّة والعرقيّة. ووفقاً للاستطلاع الّذي أُجري في عام 2013 من قبل Ipsos-CEVIPOF، فإنّ سبعة من أصل كل عشرة أشخاص يعتقدون أنّ هناك “الكثير من الأجانب في فرنسا”، وأنّ 74% من الفرنسيين يعتبرون الإسلام غير متوافق مع المجتمع الفرنسي. وأنّ اعتبار الإسلام تهديد للقيم الفرنسيّة لم يؤد فقط إلى تعزيز الدّور السياسي للثقافة بل أيضاً أدّى إلى زيادة الاستياء الشّعبي من السياسة السائدة.

في الماضي، كان السّخط، سواء داخل المجتمعات الشمال إفريقيّة أو الطّبقة العاملة من البيض، يترجم إلى عمل سياسي مباشر. واليوم، مع أنّ كلا المجموعتين تعبّر عن سخطها من خلال سياسات الهويّة. كلّ على طريقته، فإنّ الشعوبية العنصريّة والإسلام الراديكالي هي حالات متشابهة من التهميش الاجتماعي في عصر سياسات الهوية.

إنّ كل من التعدّدية الثقافيّة والاستيعابيّة ما هي إلّا استجابات سياسيّة مختلفة لمشكلة واحدة: ألا وهي انقسام المجتمع. وحتّى الآن فكل ما تفعله هذه السياسات هو جعل الأمور أسوأ. وقد حان الوقت لتجاوز هذا النقاش العقيم بين النهجين. وهذا بدوره يتطلب تمييز ثلاثة أشياء.

أوّلًا، على أوروبا فصل التنوّع كتجربة معيشيّة عن التعدديّة الثقافيّة كإجراء سياسي. فيجب الترحيب بتجربة العيش في مجتمع متنوّع لوجود المهاجرين فيه. ويجب مقاومة محاولات إضفاء الطابع المؤسسي على تنوّع كهذا من خلال الاعتراف الرّسمي بالاختلافات الثقافيّة.

ثانياً، ينبغي على أوروبا التمييز بين عمى الألوان وعمى العنصريّة. حيث يميل الاستيعابيون إلى معاملة الجميع بمساواة كمواطنين، وعدم التعامل معهم على أساس انتمائهم العنصريّ أو الثقافيّ. إلّا أن هذا لا يعني أنّه على الحكومة تجاهل التمييز ضدّ جماعات محدّدة. فلا معنى للمواطنة إذا تمّت معاملة المواطنين بطرق متباينة، سواء بسبب سياسات التعدديّة الثقافيّة أو بسبب العنصريّة.

وأخيراً، ينبغي على أوروبا التمييز بين الشعوب والقيم. حيث يرى أتباع التعدديّة الثقافيّة أنّ التنوع المجتمعي يضعف إمكانيّة إيجاد قيم مشتركة. وبشكل مشابه، يقترح الاسيتعابيّون أنّ مثل هذه القيم ممكنة فقط في مجتمع متعدّد الثقافات، ومتجانس عرقيّاً. كلاهما يرى مجتمعات الأقليات كمجاميع متجانسة، مرتبطة بمجموعة محدّدة من الصفات الثقافيّة، الإيمان، المعتقدات، والقيم، أكثر من كونها عناصر متمّمة للديمقراطيّة الحديثة.

لا ينبغي أن يكون النقاش الفعلي بين التعدديّة الثقافيّة والاستيعابيّة، بل بين شكلين من أحدهما وشكلين من الآخر. حيث ستقوم السياسة المثلى بالاقتران من خلال احتضان التعدديّة الثقافيّة للتنوّع الفعلي، بدلاً من ميلها لإضفاء الطابع المؤسسي على الاختلافات، بالإضافة إلى عزم الاستيعابيّة على التعامل مع الجميع كمواطنين، أكثر من ميلها إلى بناء هويّة وطنيّة من خلال اعتبار بعض المجموعات غرباء عن الأمّة. ومن الناحية العمليّة، فإنّ ما قامت به الدول الأوروبيّة كان العكس. حيث عملت سياسات التعدديّة الثقافيّة على وضع المجتمعات في صناديق مغلقة أمّا الاستيعابيّة فقد أبعدت الأقليّات عن التيار الرّئيسي.

على أوروبا أن تمضي قدماً وتعيد اكتشاف القيم العالميّة (الشموليّة)، الأمر الّذي طالما استبعده ليبراليّو القارّة، وإن كان ذلك بطرقٍ مختلفة. ومن ناحية أخرى، فهناك قسم من اليسار جمع بين النسبويّة والتعدديّة الثقافيّة، معتبرين أنّ الفكرة الأساسيّة من القيم العالميّة يكمن فيها بعض الإحساس بالعنصريّة. أمّا من الناحية الثانية، فهناك دعاة التعايش مع الاستيعابيّة الفرنسيّة كالفيلسوف بيرنارد –هنري ليفي، الّذي أصرّ على التمسك بقيم التنوير التقليديّة ولكن من يفعل ذلك بأسلوب قبلي يفترض صداماً حضاريّاً.

كان هنك أيضاً افتراض في أوروبا عن وجوب التعامل مع كل من الهجرة والاندماج من خلال السياسات والمؤسسات الحكوميّة. إلّا أنّ الاندماج الحقيقي، سواء للمهاجرين أو لجماعات السّكان الأصليين، نادراً ما يكون ناتجاً عن أفعال الحكومة؛ فهو غالباً ما يتشكّل في المجتمعات المدنيّة، من خلال الروابط الفرديّة التي يكوّنها الناس مع بعضهم البعض، ومن خلال المنظمات التي تنشأ لتعميق الاهتمامات السياسيّة والاجتماعيّة المشتركة. إنّ تآكل الروابط والمؤسسات أثبت الإشكاليّة –التي تربط بين فشل السياسة الاستيعابيّة بتلك التي تخصّ التعدديّة الثقافيّة –وهذا ما يفسّر كون الاختلافات الاجتماعيّة صفة، وهي ليست خاصّة بالجاليات المهاجرة فقط، بل بالمجتمع ككل. وبذلك تحتاج أوروبا إلى تجديد المجتمع المدني وليس إلى إيجاد سياسات حكوميّة جديدة من أجل إصلاح الضّرر الّذي سبّبه التهميش، ولإحياء النزعة الكليّة التقدميّة.

____________________________________

عن مجلة “فورين بوليسي”

*****

خاص بأوكسجين

 

 

 

 

 

 


مفكر انكليزي من أصول هندية (1960) معروف باهتمامه بالموضوعات المتعلقة بالتنوع العرقي والثقافي و"فلسفة البيولوجيا"" من كتبه ""معنى العرق"" 1996 و""إنسان، وحش، وزومبي"" 2000 و""قاكهة غريبة: لماذا كلا الطرفين على خطأ في النقاش الدائر حول العرق"" 2008."