إبرة الرعب
العدد 145 | 28 كانون الثاني 2014
هيثم حسين


لم يعد يفاضل بينها، كلّها تسحره، لا تفسح له مجالاً كي يستريح، هو الذي لا راحة له دونها، أدمنها، بحواسّه كلّها، لمساً وشمّاً ونظراً وطعماً وهمساً، يدقّق النظر فيها، يلمسها دون مطهّرات أو كحول، ثمّ بحركة خفيّة يسترق إصبعه إلى فمه يمرّرها على لسانه مستطعماً ألذّ طعم يمكنه أن يتذوّقه، أثناء ذلك يقرّب عينيه من الموضع، يتمعّن في النقطة التي يعيّنها، مدّعياً ضعف نظره، كي يتمكّن من شمّ الروائح التي تتغلغل في ثنايا روحه، تلتصق به كقطعة منه، ولا يغفل عن سماع هسهسة العضلات التي تكون مسرح ولعه ولعبه، فتتلاقى وتفترق، تشتدّ الأعصاب وترتخي، يسمع نبض الدم في العروق، تبقى حواسّه في تلك اللحظات ثائرة، يكون على أهبة استعداده وفي ذروة تيقّظه. هذا ما يبديه متفانياً حريصاً في عمله، بالنسبة للآخرين، ويحقّق له متعته العظمى في البقاء متواصلاً مع حقائق الناس جميعاً. كما بات يطلق عليها في قرارة نفسه. 

الممرّض أصبح له التسمية واللقب معاً، يرفق البعض أحياناً اسمه بالممرّض فيكاد الأمر يبدو غريباً للآخرين الذين تكفي الصفة اسماً له لشهرته بها، لم ينهِ تعليمه المتوسّط، بل اكتفى بالابتدائيّة، لم يتعلّم أيّة صنعة حتّى سيق إلى الخدمة العسكريّة الإجباريّة، حالفه الحظّ فيها، وجاء فرزه في قطعة طبّيّة كحارس ضمن المجموعة المكلّفة بالحراسة، ومع دوامه هناك، حيث كان يطيل البقاء، لم يكن بمقدوره السفر كغيره، لأكثر من سبب، كان يتذرّع ببعد المسافة علناً، ويكتم فقر أهله الشديد، وعدم مقدرتهم على إعطائه مصروفه الذي لا يُذكَر، لاسيّما أنّه لا يدخّن، وليس من النوع الذي يكثر من الغدو والرواح، بل يلازم مسكنه، وُصِف من قبل بعض زملائه بأنّه انطوائيّ، ينعزل بنفسه عن غيره، بالمقابل لم يكن يستثير حقد أحد عليه، لم يكن يتدخّل في شؤونهم الخاصّة، يساعدهم إذا اقتضت الحاجة، ينوب عنهم أحياناً في بعض نوبات حراستهم، كان يقوم بذلك في البداية كسباً لتعاطفهم وثقتهم، ثمّ تطوّر الأمر بعد أن أصبح يقوم به لقاء أجر يُتَّفَق عليه، كان ذاك الأجر يختلف من شخص إلى آخر، كان الأدسم بينهم نضال، شابّ شاميّ، يبدو مدلّلاً وناعماً جدّاً، كان ينوب عنه في العطل والأعياد، قبل أن ينوب عنه في الليل، ثمّ في الليل والنهار، ثمّ يغرقه ذاك الشابّ بالمنح والهدايا، ويغدو أسيره وأسطورته. 

نضال هذا أمّن وضعه مع العقيد، دام الأمر بضعة أسابيع قبل أن يُعفَى من الحرس نهائيّاً ويتفرَّغ للحجابة، ثمّ يفيَّش.. وينتقل..  

والتفييش مصطلح شائع بين العساكر، يدلّ على أنّ هناك مَن يغيب لقاء مبلغ متّفق عليه من النقود. أو يشتغل لصالح ضابطه، أو يخدم في بيته أو ما شابه من التصرّفات. يقوم الضابط بالتغطية عليه. ما يهمّ في هذه العمليّة هو الدفع من قبل العسكريّ والقبض من قبل الضابط. وهكذا غدت الخدمة بالنسبة للبعض كارثة، ولآخرين منتفعين، شركة من دون رأس مال تدرّ ذهباً..  

تمكّن من اكتساب ثقة ضابطه، لأنّه كان ملتزماً بدوامه، لم يكن يهرب الليليّات كالشوامّ، الذين كانوا ينسلّون إلى بيوتهم في معظم الليالي التي لم يكن يناوب فيها العقيد، فالقطعة لم تكن تبعد عن دمشق سوى نصف ساعة تقريباً، علاوة على أنّ الضغط كان قليلاً على المستوصف، كان ذلك يمنحه وقت فراغ كبير، وحرّيّة في الحركة والتنقّل بين غرف المستوصف، فكان يجلس على كرسيّ الطبيب، يضع السمّاعة في رقبته، يحمل جهاز الضغط بيده، يرتدي المريولة البيضاء، يسرع من غرفة إلى أخرى، يمثّل سؤال المرضى عن الحالات التي تعتريهم، يزعم التأنّي، يتوقّف عند هذا السرير أو ذاك، والأسرّة كلّها شاغرة، يطلب ورقة وقلماً كي يكتب الأدوية، يتلفّت حوله باحثاً عن الممرّضة المساعدة، ثمّ يخرج متمنّياً الشفاء للجميع، موزّعاً الابتسامات على الأسرّة. كان هذا دأبه في معظم الليالي التي لم يكن الملازم مناوباً فيها. تطوّرت لغته العربيّة، صار يقلّد اللهجات، لكنّه لم يتمكّن من إجادة لهجة بعينها، بل ظلّ متنقّلاً بينها، يقول جملة بهذه اللهجة، ثمّ أخرى بلهجة ثانية، وهكذا كان يتبلبل تركيزه بين اللهجات، يلعن في سرّه تعدّدها، يستغرب أنّه كان يظنّ قبل ذلك، أنّ الجميع يتحدّث لهجة واحدة، اكتشف جهله بالمخالطة، ولم يستطع تخطّي جهله باللهجات أكثر، فاختار أن يتصرّف على طبيعته التي كانت تظهره بسيطاً وساذجاً، تثير الضحك عند غيره، بالمقابل تجعله محبوباً، يجلب التسلية بعفويّته. ارتاح للدور الذي وُضِع فيه. يرتاح إليه الجميع، يناوب عنهم، ولا يشي بهم، يلبّي مطالب معلّمه، يكبر المبلغ الذي يجمعه من حراسته. بالموازاة، كانت تكبر عنده أمنية عظمى، أن يتعلّم حقن الإبر، الحقن بخفّة من دون وخز أو إيلام، أو شكّها، كما كان يسمّيها أحياناً مقلّداً بعض أصدقائه. 

بيّت الأمر في نفسه، كان يكثر من التردّد على الطبيب أثناء الدوام، يراقب تحرّكاته، وعندما يتوقّف الطبيب أو يجلس في مكتبه، يتتبّع الممرّض أو الممرّضة، ثقة الجميع به، سهّلت له المتابعة والتحرّك معهم، لم يكن يسأل كي لا يثير انتباههم أكثر، لاحظ الجميع ولعه بالتمريض، فبادر كلّ واحد من جهته بإسداء النصائح له، كان يكسب ثقتهم من خلال بعض كاسات الشاي أو القهوة التي يحضّرها لهم دون طلب منهم، أو بعض الحلويات التي يوصي بها أصدقاءه الفارّين في ليليّاتهم. 

رويداً رويداً كان يتعلّم، يحتكّ بهم، لم يتجرّأ على التطبيق في حضرتهم، كان يخشى أن يبعدوه لصعوبة تعلّمه. كانت الليلة الحاسمة بالنسبة له، عندما أسرع أحد الأهالي من القرية المجاورة، حاملاً معه طفلته ذات السنوات الستّ، يطلب النجدة من المستوصف العسكريّ القريب، ولمّالم يكن هناك أحد من الأطبّاء أو الممرّضين، سارع لتقديم المساعدة، كان قد تعرّف نظريّاً إلى ما يجب القيام به في الحالات الإسعافيّة. وضع الطفلة على السرير، رشّ الكحول على قماشة ووضعها أمام أنفها، دبّت الحركة في أوصال الفتاة، هدأ والدها. ثمّ بدأ الدكتور، كما وصفه والد الفتاة، بإلقاء الأسئلة على الفتاة ووالدها. لاحظ تألّم الفتاة بعد إعادة الوعي إليها، أخبرها بأنّه سيخفّف من آلامها بإبرة ستساعدها على القيام والركض واللعب. لكنّ الفتاة ارتعبت من ذكر الإبرة، سرت رعشة في أوصالها، كادت تبكي لولا أنّه هدّأها بأنّه لن يؤلمها، ثمّ سارع إلى تحضير الإبرة، طلب من الفتاة أن تتمدّد على بطنها، أن تدقّق النظر في الساعة الحائطيّة التي كانت متوقّفة عند الساعة الثالثة، استجابت الفتاة باكية متشنّجة، رضخت بعدما قلبها والدها على بطنها، طلب من والدها أن لا ينظر كي لا يتألّم على ابنته، عندما رفع تنّورتها الحمراء، وأنزل سروالها المنقّط، انتابته حمّى لم يعرف لها سبباً، وهو يلمس بطرف إصبعه مؤخّرتها، هاج واضطرب، تخلخل توازنه، قرّب يده أكثر ليلامس الفلقة اليمنى من مؤخّرتها الناصعة البياض، استقرّت كفّه على الفلقة، ضغط عليها قليلاً، كان يودّ لو أنّه ينتزعها ويحتفظ بها معه، لكنّه طبطب عليها، طالباً من الفتاة أن ترتخي، وألاّ تخاف، لأنّه لن يؤلمها، ثمّ طلب من والدها أن يخفّ ليحضر كأس ماء من الغرفة المجاورة، أثناء ذلك تمعّن في مؤخّرة الطفلة، وهو يدلكها برفق وحنان، زاعماً أنّه يهدّئ أعصابها، حاول أن تتوسّع دائرة فركه وتدليكه للفلقة لتشمل المؤخّرة كلّها بتمريرة خاطفة، لكنّها ثبتت وتخلّدت في ذاكرته. 

لم تجرؤ الطفلة على الحِراك، فمجرّد ذكر الإبرة كان كفيلاً بتجميدها في مكانها، استسلمت للدكتور الذي يسعفها، لم تكن تحسّ بشيء، حتّى الألم بدا وكأنّه قد زال، لكنّها شعرت بعدما ألحّ عليها بالارتخاء، بيد تضغط عليها وتكاد تخمّش لحمها، كان كيلوتها الصغير بين فخذيها يجنّن مُسعفها على غفلة، نسي العالم كلّه، وغاب في تصوّراته وتخيّلاته التي انطلقت على غير وعي منه، فكان أن انساق وراءها، كالمنوَّم المخدَّر، وحين قدّم له والدها كأس الماء، لم ينتبه، إلاّ حين هزّه من كتفه، عند ذاك طلب أن يسقي الفتاة ماء كي تهدأ، لأنّه لا يستطيع أن يحقن الإبرة وهي متوتّرة، تشدّ أعصابها وعضلاتها كلّها، وأنّه يخشى أن تنكسر الإبرة وهي تحرّك نفسها. فتكون النتائج خطيرة.

جلس على الكرسي القريب من السرير يتمعّن المؤخّرة المرتعشة، أغراه المنظر مرّة أخرى، لم ينتبه إلى عضوه المنتصب، ولا والد الفتاة انتبه، لكنّ المنظر الجانبيّ انحفر في خياله، استأثر به، فقام من وضعيّته إلى الجهة الأخرى، كي يحتفظ بأكبر قدر من المشاهد، وكي ينتهز الفرصة التي واتته، يتحرّك والإبرة في يده، يضغط عليها، حتّى كادت أن تفرغ من الدواء، لكنّه أدرك أنّ ذلك أفضل بالنسبة له ولها، فكونها المرّة الأولى التي سيجرّب فيها حقن الإبر، فالأفضل أن يكون الدواء الموضوع قليلاً، لا يضرّ إن لم ينفع. وهو عادة يملأ إبره بالسيروم الملحيّ الذي قال له الدكتور بأنّه لا يضرّ أحداً. بعدما ارتوى من المشاهد من مختلف الزوايا، عاد إلى موقعه خلف السرير والطفلة ممدَّدة عليه، المؤخّرة المنكفئة على ذاتها تبدو صارخة مثيرة بالنسبة له، نحولها يتبدّى له ربربة ودسماً، كان يتخيّل أنّ الخطّ الفاصل الواصل بين فلقتيها يدعوه للزيارة والتنعّم في جنونها الجاذب. مدّ يده مرّة أخرى يتحسّس الفلقة اللدنة، برويّة أكثر، بتدقيق مضاعف، بتشهٍّ أبلغ، ثمّ دلك القسم العلويّ منها بالكحول، بسمل وهو يقترب منها، يسألها عن الساعة، غرز الإبرة في لحمها وأفرغ ما تبقّى من السائل فيها، ثمّ سحبها برويّة وهدوء، وهو يصطنع المزاح مع الفتاة، يردّد لها أنّه لم يجهّز الإبرة بعد. ارتخى عضوه بعدما أفرغ الإبرة، ارتخت الفتاة، هدأ والدها الذي أكثر من الشكر للدكتور المناوب. 

أمسك الوالد بيد ابنته التي تمكّنت من الوقوف والسير بعد أن دلك الممرّض موضع الإبرة بولَهٍ كاد يفضحه، غادر بعدما أغرق المستوصف بالأدعية والثناءات. بقي الممرّض في الغرفة مذهولاً مصدوماً، سعيداً، منزعجاً، تناهبته المشاعر المتناقضة، أحسّ بتأنيب الضمير، بعد وقت لم يستطع تحديده، وجد نفسه ممدّداً على سريره، لهاثه يملأ الغرفة، وهو يمارس عادته السرّيّة، ويستحضر المشاهد التي اختزنها بدقّة وتفصيل..      

كانت العلّة تكمن في تأمين الاحتكاك من عدمه، توفّره أو انعدامه، فالاحتكاك يكشف النقاب عن المخبوء، يميط اللثام عن المدفون في الصدور، يوسوس في النفوس، يتبارى مع نفسه، يفعّل الاستثارة الدفينة، يدفع إلى التحرّش، لا يَرضى بمهادنة أو إراحة، أن يحتكّ، يعني أن يُمْرر شيئه حيث يرغب، لينتج الشرارة التي تكوي، تريح، وتفجّر، فالاحتكاك منشود لتداعياته التي تكشف حقيقة الأشياء، وجوهر الأشخاص.. الاحتكاك اكتشاف الشرارة التي تودي بالحياة وتنعشها في آن، كان السبب في إبقاء البشر مستمرّين متناسلين في هذه الدنيا، الكلّ يدين للاحتكاك بحياته، فلو أنّه لم ينسلّ بين حوّاء وآدم، وزلزل جسدهما، أشعل النيران التي انبعثت من الشرارة المتولّدة، لما كان هناك وجود لبني آدم.. ربّما الحكّة التي تصيب أماكن بعينها هي التي تستدعي الاحتكاك، كي تهدأ، تختلق الأسباب لتسترعي الاهتمام، تتحرّش بالرغبة فتثوّرها، تعترك في الداخل ليلوذ صاحبه إلى شريك يهدهده بعد إطفاء نيرانه.. الاحتكاك شرارة الحياة.. سبب النشوء والتكوين.. خلق وابتكار. 

عندما احتكّ اكتشف طاقاته الكامنة، ومواهبه المقيّدة، انفكّ عقالها فهبّت من رقادها، وانطلقت في سيل من التحوّل لن يهدأ طيلة حياته..

_________________________

روائي وناقد من سورية والنص هنا هو الفصل الخامس من رواية بعنوان “إبرة الرعب” صدرت للكاتب عن  “منشورات ضفاف” – بيروت، و”الاختلاف” – الجزائر 2013.

الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري بسيم الريس

*****

خاص بأوكسجين