أنسي الحاج ..إما الاختناق أو الجنون
العدد 146 | 21 شباط 2014
أوكسجين


مضى السيد الوقت طويلاً وقرر أن يتوقف، أوقف جميع العقارب، ومعها ذاك القلب وذاك “الرأس المقطوع” ومعه “لن”. الآن السيد الوقت يواصل مسيره وقصائد وغراميات وتوثب وتمرد يجعله متلفتاً يحتاج لثلاث ثوانٍ لينجز ثانية واحدة، ولم يعد الوقت سيداً لأن من نصبه مات وبقي هذا الـ “لن” وقصائده، والرسولة بالتأكيد بشعرها الطويل حتى الينابيع بما يدفع للترقرق والتدفق رفقة حماستنا للقصيدة كما نثرتها يا أنسي الحاج وأنت تقول في بيان “لن”: “القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كله قصيدة واحدة، فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلاً إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه”.

أنسي الحاج هو قادم من هناك تماماً، وطيفه حاضر في أوكسجين التي تتوق للتمرد لمعاينة الجديد والمتجدد، وإن كانت الفداحة في ازدياد منذ بيانك في عام 1960 والأقلية ليست إلا تلك الأقلية التي تصفها في ذاك البيان، أقلية الأوكسجينين أيضاً وهامشهم هذا الذي يجد نفسه “بين محيطيه غريباً، مقاتلاً، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية “النخبة” والرعاع على السواء. لدى هذا التشبث بالتراث “الرسمي” ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب، أمام أمواج السم التي تغرق كل محاولة خروج، وتكسر كل محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة لجذور في السخف، أمام بعث روح التعصب والانغلاق بعثاً منظماً شاملاً، هل يمكن محاولة أدبية طرية أن تتنفس؟ إنني أجيب: كلا، إن أمام هذه المحاولة مكانين، فإما الاختناق أو الجنون. بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كي يسمع. ينبغي أن يقف في الشارع ويشتم بصوت عال، يلعن، وينبئ. هذه البلاد، وكل بلاد متعصبة لرجعتها وجهلها، لا تقاوم إلا بالجنون. حتى تقف أي محاولة انتفاضية في وجه الذين يقاتلونها بأسلحة سياسية وعنصرية ومذهبية، وفي وجه العبيد بالغريزة والعادة، لا تجدي غير الصراحة المطلقة، ونهب المسافات، والتعزيل المحموم، الهسترة المستميتة. على المحاولين، ليبجوا الألف عام، الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد؛ وقد يتعرضون للاغتيال، لكنهم يكونون قد لفظوا حقيقتهم على هذه القوافل التي تعيش لتتوارث الانحطاط، وها هي اليوم تطمح إلى تكريس الانحطاط وتمليكه على العالم.”

ونحن يا أنسي الحاج نودعك ونسعى بكل ما أوتينا للانتصار على الاختناق بأنفاس أوكسجينية مجنونة ما دام خيار الاختناق والجنون هو كل ما تقدمه إلينا حياتنا العربية العتيدة.

________________________

الصورة من فيلم “حصان تورينو” للمخرج الهنغاري بيلا تار

*****