أنا وجي
العدد 232 | 08 حزيران 2018
شادي خرماشو


هي ورطة جميلة وضعت نفسي فيها حين خضت غمار ترجمة رواية “جي” للكاتب والمفكر جون برجر أو “الحكواتي” كما درج على وصف نفسه … فحدث ما حدث.  

“جي”، الكتاب والشخصية، كانا يتربصان بي قبل أن أتورط بهما بوقت، وعندما بدأت علاقتي المباشرة بهما، كان الأمر أشبه بقدر لا بد منه.

الكتاب، ومنذ بداياته، هاجمني بكل عنفه وألغامه ورموزه، فتبادر إلى ذهني أكثر من مرة أن أكتب رسالة إلى الناشر أعتذر فيها عن المواصلة، وأعلن له عن استسلامي الحزين، والمبرر إلى حد ما، لشدة ما تمنّع علي النص، وأرهبني… لكنني، وفي كل مرة، كنت أعد إلى العشرة، وعند التسعة أحجم عن ذلك، فقد بدا لي هذا الكتاب مثل جميلة الحي العصية والبعيدة عن منال كل من حولها، لكن التي يصعب عليك أن تتركها وحيدة مع جمالها.

الشخصية، ومنذ أن ولدت حراماً بفاجعة هزت كيان أمها وأثلجت قلب أبيها، بدأت تعيش معي في كل تفاصيل حياتي، أراها في كل ما أراه، وأبحث عنها عندما تتوارى خلف غرابتها المطلقة. وعندما كبر جي، كبرت معه، هرمت لأفهمه… كرهته طوراً، ووقعت في غرامه أطواراً. ومنذ أول أنثى وقعت في حبائله، وقعت أنا في شراكه. وانقضى الأمر. هو جي الذي لم يخلُ اختصار اسمه من رمزيته الجنسية، جي الذي عرف الحب، أول ما عرفه، سفاحاً بين خاله وخالته اللذين وضعته أمه في عهدتهما عندما أخذتها السياسة بعيداً عنه. هكذا نشأ جي الصبي في أجواء من الشبق والشهوانية مهّدت لخوضه أولى علاقاته الجنسية، والتي شاءت رغبة الكاتب أن تكون سفاحاً مع خالته نفسها.

من جسد خالته انطلق ليأخذني معه في رحلة من الغواية والمغامرات غير المحسوبة، ليعرج في الطريق الذي رسمته له غرامياته على الأحداث العالمية التي عاصرها: ثورة العمال في ميلانو في 1898، وحرب البوير، وأول رحلة بالطائرة الشراعية فوق جبال الألب… أحداث لم تعنِ له شيئاً، كما يعبّر هو نفسه عن ذلك عندما يقول لأحد معارفه، هو الذي لم يقم علاقة صداقة مع أحد طوال حياته، “أنا لا أؤمن بالقضايا الكبرى”. إلا أن كاتبه ينجح من خلال غزواته الجنسية في تسليط الضوء على أكبر القضايا: وضع المرأة في أوروبا والظلم الذي تعرضت له لتصبح وكيلة الرجل في إخضاع ذاتها له، نفاق الطبقة البرجوازية وأسباب انهيارها، نشوء الطبقة الرأسمالية، والوحشية التي تعاملت بها القوى الإمبريالية مع الشعوب التي احتلت أرضها.

جي هو مثال عن الشخص اللامنتمي الذي لا يعلم لماذا ولد وفي سبيل ماذا يموت… مخلوق لا يؤمن بقضية أو عقيدة أو منظومة أخلاقية، بل تسيطر عليه فكرة واحدة: تحرير المرأة عبر بوابة الجنس. لم يكن الشبق ما يدفع جي إلى ارتكاب غرامياته، بل لأنه يؤمن بأن الإنسان لا يكتمل إلا بفعل الحب المنفلت من كل حكم أخلاقي، هكذا مضى متمرداً على الرياء والنزاهة المزيفة والمظاهر الكاذبة وتشويه الصورة بالوصف القاصر… هكذا أخذ على عاتقه أن يحطم رمزية الذكر الرأسمالي المتسلط الذي جعل ذات المرأة تنقسم إلى ذاتين، وأن يكافح ليجعلها “أنا” موحدة وليس “هي” منقسمة.

في كل سطر من سطور الكتاب رمز كان يدعوني إلى فكه، وفي كل مقطع لغم لغوي ينفجر بي ليقذفني نحو رحلة بحث معرفية أدخل معها في مجاهل التاريخ والجغرافية والسياسة، وألج فيها حكايات الماضي الغامض المظلمة التي صنعت حاضراً أعيش فيه الآن ليفتح عينَي على حقائق جديدة.

لا تنحصر استثنائية الكتاب في أفكاره وطرحه ورموزه وألغامه، بل يتجسد سحره في بنائه أيضاً، إذ يبعثر الكاتب الفكرة على فقرات تتخللها آراؤه وشطحاته، ونقده لذاته ولمحاولاته التعبير عما ينبغي السكوت عنه ووجوب ترك التجربة في حالتها الفطرية بدل من تشويهها بتوصيفها وسردها بمفردات تحدد نظرتنا إليها. أما الزمن فيلهو به على هواه، فتراه ينوس بين الماضي والحاضر من دون أن يترك لمن يقرأه مساحة للتنفس، تاركاً إياه يلهث خلف سيل أفكاره وعباراته الجارف.

هي ورطة وضعت نفسي فيها فأدخلتني عالماً من السحر كثيراً ما تهت في دهاليزه، وقررت العودة من حيث بدأت، لكن السيرينات في نهاية كل دهليز كن ينشدن أغانٍ بجمال ما أن يصل إلى مسامعي حتى يزيل الشمع من أذني ويرغمني على كسر الصارية لأتعقبه مأخوذاً به. 

————-

صدرت رواية “جي” عن دار المدى أوائل هذا العام

*****

خاص بأوكسجين