أنا جاهز لعبور البطن
العدد 167 | 24 شباط 2015
محمد ربيع


تقدَّم منّي شابٌّ تفوح منه رائحة صابون، بدا لي أنّه تحمَّم وحلق ذقنه توًّا، يمسك بندقية خرطوش ذاتَ ماسورة طويلة محليّة الصنع بكفّين نظيفتين، وتبدو أظافره نظيفة مسوَّاة بعناية، بدوتُ كشحَّاذ مقارنة به؛ رائحة عرقي نفَّاذة، وملابسي متّسخة، ويداي ملوَّثتان بالتراب الذي حفرته قبل دقائق، وبآثار الأقدام والأحذية على السلم الطويل.

لا مفرَّ من بطن الكوبري؛ لا يتحرَّك مَن بلا أوراق مثلي بين شطرَي القاهرة إلّا هكذا، عبر بطن كوبري أكتوبر، مخاطرين. قد يفقد المارُّ مالَه وممتلكاتِه وقد يفقد حياتَه. لكن يستحيل المرور على ظهر الكوبري، نقاط التفتيش هناك مصيدة لأمثالي، ثم إنّ أجرة المرور هنا قليلة، علبة سجاير فقط. هي سلعة رخيصة عندهم وعندي. الآن سأمرّ كمواطن عادي، لا يعلمون أنّي من المقاومة، لا أعلم إن كان هؤلاء من المقاومة أم أنّهم مجرَّد بلطجية يحرسون مصدر دخلهم؛ بطن الكوبري. لا أحمل معي شيئًا ذا قيمة وهذه رحلة بالغة القِصر، سأسيرُ أقلّ من كيلومترين عبر بطن الكوبري.

 قال الشابُّ لي بهدوء:

«أجرة المرور علبة سجاير لم تُفتح، لا أسلحة هنا، إذا كنت تحمل سلاحًا الآن فارمِه من هذه الفتحة، لا تحادثِ المارّة ولا تنظر إلى وجوههم، وإذا كنت تحمل قناعًا فضعه على وجهك، أو غطِّه بشال أو بورق جرائد، وإذا لم تحمل أيًّا من كلّ هذا فهاك كيسًا من الورق لتضعه على رأسك. كلّ هذا لحمايتك أنتَ، لا تفصح عن اسمك أو شخصيّتك لأيٍّ من المارّة أو البائعين أو النائمين أو الواقفين. البطن لم يعد ممرًّا فقط كما كان، بل هو الآن منفذُ لبيع أشياءَ كثيرة، لا أمنعك من شراء أيّ شيء من الباعة، لكن كلّ عملية شراء ستتمُّ على مسؤوليتك، لا تأتي إليَّ شاكيًا أحدَهم إن قام بسرقتك أو النصب عليك… تقدَّم الآن».

وضعتُ علبة السجائر في كفِّه. أخرجت قناعي من الحقيبة ووضعته على وجهي، ثبَّتُّه بالحزام الجلديّ على رأسي، أنا جاهز الآن لعبور البطن.

ظلام يكتنفُ المكان، لا يُظهر أمامي أيُّ شيء، ومن خلفي الشابّ ورائحة صابونه تختفي، ومن حوله وقف رفاقه يتأمَّلونني، يبدون كحرَّاس حقيقيّين بعصيِّهم وسيوفهم القصيرة، وضوء خافت شحيح ينبعث من الكوّة ينيرُ النصف السفليَّ من أجسادهم. تقدَّمت خطوات عدّة وأصوات بعيدة تصلني من عمق البطن، وأضواء متفرّقة ملوّنة، وصليل أسلحة وسلاسل.

أوّل ما رأيت كانت امرأة تبدو في الستين من العمر، كان وجهُها مغطَّى بقماشٍ ملفوفٍ حول رأسها، كأنّه عمامةٌ تغطّي الوجهَ بأكمله. لم تكن ترتدي أيَّ شيء آخر، ترهّلات الثديين والكتفين تفضحُ سنّها. منظرُها مبهرٌ جدًّا. العُري غير المتوقَّع والوجهُ المحجوب أربكاني كثيرًا، هذه أوّل مرّة أرى امرأةً عاريةً في مكان يُفترض أنّه مكانٌ عامٌّ كالشارع. رفعتُ يدي إلى وجهي تلقائيًّا؛ لأتأكدَ من ثبات القناع في مكانه. الآنَ، أنا آمن تمامًا. كانت تمسحُ بكفِّها على فخذِها، ثم عصرت ثديَها الأيمن وسألتني بصوتٍ مبحوح هادئ: «الخمسة بخمسة؟»

تجاوزتها متوقِّعًا الأسوأ.

لم أتوقّع أن يُنشأ الكوبري وفي باطنه نفق كهذا، حائطين وأرضية وسقف من الخرسانة. على الأرضية كابلاتٌ ومواسيرُ ضخمة تمتدُّ بطول النفق، تبدو ظاهرةً للعابر من خلال الفرجات بين الألواح الخشبيّة الكبيرة التي تغطّيها، بالتأكيد وضع المارة الألواح كي لا يتعرَّضوا للصعق إذا تقشَّرت الكابلات، وكي لا تُثقبَ المواسير أو تنكسرَ إذا زاد الضغط عليها. هناك أكشاك عديدة على الجانبينِ، بعرض متر وطول مترين تقريبًا، وستائر مُعتِمة تغطِّي كلَّ كُشك، تحجبُ النورَ القليل المنبعث من الكشَّافات الكهربائيّة المعلَّقة في سقف النفق. بعضُها مسدلٌ على ما يحدث، وبعضُها مرفوع ليُظهرَ ما بداخل الكُشك. لم أستطع مقاومة الفضول، أنا لم ألمس فتاة منذ مدَّة طويلة، ودفء المكان والخطر المحدِق بي يحفزاني للتوقُّف. أمام ما رأيته أكثر الأكشاك تنظيمًا توقَّفتُ، لا مارَّة بجانبي، وفتاة نحيلة تجلس على كرسيٍّ مرتفع أمام الستار، تبدو ساقيها ناعمتين في الضوء الشحيح، ووجهها صغير متناسق، وأحمر شفاه قاتم يُزيِّن وجهَها، ترتدي جلبابًا خفيفًا، يُظهر جِيدها وجزءًا من ثدييها من جيبه، قالت لي: «الخمسة بخمسة». ولم أفهم ما تعني، لكنّي أومأت موافقًا على الصفقة، دخلت الكُشك وتبعتُها، وأسدلتْ الستار علينا.

في الداخل صور عديدة لنساء عاريات ملصقة على الجدران، كنت واقفًا أنظر حولي وأحاول الهرب من نظرات الفتاة، بسرعة فكَّتْ هي حزامي وأنزلت البنطلون، والتقمت قضيبي وأخذت تمصّه حتّى انتصب. ثم أجلستني على الفراش وامتطتني، حاولتُ خلع الجلباب عن جسدها، فأوقفت يدي بحدّة، وأمسكت طرف الجلباب وخلعته بحركة واحدة، ليصبح جسدها عاريًا تمامًا أمامي، أمسكت ثدييها وهي صامتة تتقافز على قضيبي. حدَّقتُ كثيرًا في صدرها وكتفَيها، وعندما أدهشتني الليونة التي لم أختبرها منذُ مدَّة. اعتصرتُ ثديَيها، تقافزتْ هي بسرعة أكبر محاولة الإفلات من قبضتي، لكنّي لم أفلتها. رفعتُ عيناي ورأيتُ وجهها واضحًا لأوّل مرَّة، بدا لي أنّ عينَها اليمنى حولاء، تنظر إلى الجانب فلا تتحرَّك كما تتحرَّك عينها الأخرى، زادت الفتاة من سرعتها وتأوَّهت، كان ما تفعله مفتعلًا، وبسبب السرعة سقطت عينها الحولاء على الفراش، وبدت عينُها الحقيقية مشوَّهة تمامًا. وأدركتُ أنّ التي سقطت كانت غطاءً صناعيًّا لعينِها، تركتُ ثديَيها مُندهِشًا، بينما أخفضت هي عينُها السليمة ثم أغمضتها وظهرت عينها المعطوبة بلا جفن علويّ، كانت تنظر إليَّ بعين واحدة رمادية أرى تعرُّجاتٍ طفيفةً على سطحها، عينٌ عمياءُ لا ترى، مفتوحة باتّساع، وجفنها العُلوي ممزَّقٌ وبلا أهداب، اقتربت منّي لتخفيَ وجهَها عنّي، ومرَّرت أصابعها في شعري، ولم أشعر بالاقتراب كما يحدث عادة، في تلك اللحظة قذفتُ.

قامتْ من على حِجري، وتناولت عينها الصناعية وأعادتها إلى محجرها، ثم تناولت كوبًا من البلاستيك، وملأته بالماء من دلو في طرف الكشك، نثرت الماء على فرجها مرَّتين، وارتدت جلبابها ورفعت الستارة وخرجت. كنت جالسًا على الفراش وقضيبي يسترخي ببطء، والمني يسيل على البنطلون وعلى فخذي العارية، ورأيتُ الدم كثيفًا على قضيبي، لزجًا يأخذ في التجلُّط ولم أعرف مصدره، وفكَّرت في كوابيس المراهقة، هل وضعتْ موسى في كُسِّها؟ لكن ما حدث كان يدعو إلى القرف أكثر ممّا يدعو إلى الرعب، كانت الفتاة حائضًا. مرَّ أحدُهم من أمام الكُشك، وتوقَّف لحظة ينظر من خلال الستارة المرفوعة، ورأيتُ عينَيه تبتسمان من خلف قناعه. كان يضع قناعَ وجه إسماعيل ياسين، عرفته من جبهته الضيّقة، ووشفتَيه الغليظتَين وأسنانِه الكبيرة، وابتسامتِه المتَّسعة، ما زلتُ أرتدي القناع فأنا آمن. قمتُ من مكاني مسرعًا، ورحت أُعدِّل ملابسي دونَ أن أمسح المني أو الدم، وخرجتُ لأجدَ قناع إسماعيل ياسين قد مضى بعيدًا غيرَ عابئٍ بي أو بالفتاة. قالت وهي تقف خارج الكشك: «ثلاثة بثلاثة». توقّفت أمامَها محاولًا فهمَ ما تقصد، حدَّقتُ في ثديَيها تحت الجلباب مرَّة أخرى وأنا مرتبك، أودُّ أن أعتصرهما مرَّة أخرى لكنّ الدم يمنعني، قالت: «أفّ! ثلاث دقائق بثلاثة جنيهات!».

مررتُ على عاهرات كثيرات، لم يكُنَّ أجملَ من الحائض، هي أجملهنّ مع أنّها بعين واحدة. في المرَّة القادمة سأرتدي واقيًا ذكريًّا بالتأكيد، خشيت أن تكون مصابة بمرض ما، ربّما تكون مصابة بالإيدز، وتساءلت هل ستنتقل العدوى إليَّ، هل ينقل دم الحيض الإيدز؟

مشيتُ كثيرًا، سمعت صوت السيّارات التي تمرّ فوق رأسي، فوق هذا الجزء من الكوبري تمرّ السيّارات مسرعةً، لا نقاط تفتيش لتوقفَها أو تهدِّئَ من سرعتِها، استعدت دقائق الانتظار الطويلة، قبل الاحتلال، فوق كوبري أكتوبر راكبًا سيّارتي، كنت أنظر إلى عشرات المنتظرين أمثالي وأراهم يحدّقون في الفراغ أمامهم بلا هدف. الآن لا انتظار، قلَّ عدد السيّارات العابرة بين شطرَي القاهرة كثيرًا، وحتّى مع وجود نقاط التفتيش المعيقة للسيولة المرورية، لا تتجمَّع السيّارات على الكوبري كما كان يحدث سابقًا.

البطن آمن جدًّا، على عكس ما حذَّرني الحارس عند الكوّة، وقناعي يجعلني بعيدًا ومعزولًا عن كلّ ما حولي، هنا يبيعون كلّ أنواع الممنوعات، الحشيش والبانجو، وحبوب بيضاء وأخرى ملوَّنة متعدِّدة الأشكال موضوعة على طاولات منخفضة، وزجاجات خمر رخيصة، وأكياس بلاستيك صغيرة تحوي بوظة مختمرة، ومجلّات جنسيّة مستوردة. لا أكشاك للدّعارة في هذا القسم، هنا المركز التجاري للنفق، العمل الأكثر احترامًا.

كلّما تقدَّمت، قلَّ عدد الباعة، حتّى وصلت إلى قسم ليس فيه باعة ولا عاهرات. فقط مارّة مثلي، كلّ الوجوه مغطَّاة بأقنعة من قماش أو بأكياس من ورق أو بطرف حجاب. قليلون يضعون أقنعةً خاصّةً مثلما أفعل، هؤلاء مميّزون وكأنّ أقنعتَهم لا تُخفي هُويَّاتِهم، لا نفع في ارتداء قناع واحد مميَّز طوال الوقت. سيستبدلُ الواحد القناع بوجهه، ويصبح جزءًا من هُويّته.

هذه خطواتي الأولى في القاهرة منذ سنتين، المدّة الطويلة التي قضيتُها في البرج عزلتني عن كلّ ما يحدث، متى أصبح ارتداء الأقنعة فعلًا عاديًّا؟ أم لأنّنا نمشي في بطن الكوبري؟ 

عاد الباعة للظهور، هذه المرّة يعرضون تماثيل فرعونية صغيرة، لا حاجة إلى القول بأنّها مزوّرة، مع أنّ الباعة يصرِّون على أنّها أصلية، أسمع واحدًا يجادل أحد المشترين المحتملين، يحاول إقناعَه بأنّ رأس التمثال هذا حقيقي.

ظهر باعة ألعاب الأطفال، دُمى وسيّارات صغيرة، وكرات ملوّنة، كنت أظنُّ أنّ النفق مرتع للبضاعة الممنوعة لكن يبدو أنّه مكانُ بيعِ أيّ شيء. ولمَّا لمحت الملابس الداخلية البيضاء معروضةً على الأرض، تذكَّرتُ قضيبي الملوَّث.

ضاق النفق، سمعت أحدهم يقول لمرافقه إنّهما اقتربا كثيرًا من المخرج، وبعد دقائق ظهر ضوء الشارع يأتي شحيحًا من كوّة مربَّعة في الأرضية، بدا كلُّ شيء مقلوبًا، نوافذُ في الأرضية تُنير المكان، لا في الحوائط أو السقف. نسيت لحظةً أنّي أمشي في نفقٍ معلّقٍ فوق سطح الأرض.

نزلت من خلال الفتحة، ضربني ضجيجُ السيّارات والمارّة، ورائحة بول خانقة، كان السلَّم مثبتًا في عمود الكوبري، حيث يتبوّل الناس عليه، كوَّن البولُ، بعد سنين، بقعةً سوداءَ هائلةً تمتدُّ إلى أعلى وتصل حتّى منتصف العمود، بينما تمتدُّ البقعة على الأرض إلى مدى أبعد، جافّة لا أراها تلتمع كالسوائل، لكنّها بعثت رائحة خانقة. تعاون شخص يأكلُ رغيفًا ولعابه يسيل على ذقنه، وآخر يتمخّط في الشارع، وثالث يُمسك سيفًا قصيرًا يرفعه مهدِّدًا أحدَ المارّة، تعاونوا على رفع كلّ السوائل إلى مريئي، تقيأتُ متخلِّصًا من كلّ شيء. أنا الآن في شارع الجلاء، في المنطقة المسمّاة الإسعاف.

مشيت ببطء، محاولًا الخروج من تحت الكوبري والوصول إلى حيث يوجد هواء نقيّ، كنت أرى نور الشمس الساطع يضرب شارع 26 يوليو، أودُّ أن أصل إلى تقاطُع شارع رمسيس مع 26 يوليو قبل أن أفقد الوعي، هناك سألتقي بواحد. الساعة تقترب من العاشرة صباحًا، سأصل هناك خلال خمس دقائقَ لا أكثر.

أوقفني شيخٌ عارٍ تمامًا، يمشي حافيًا وقدماه متّسختان لا تبدو أصابعُهما واضحة من شدّة السواد، كان يتمتم بكلماتٍ غيرِ مسموعة، ولعابُه يسيل على لحيته، نظر إليَّ وهمس في وجهي مرتعبًا: «كلُّنا ميّتون… كلّنا نُعذَّب». حدَّقتُ في وجهه قليلًا، ثم تابعت السير.

وقفتُ أمام صيدلية الإسعاف خمس دقائق. اقتربت منّي امرأةٌ منقّبة وسألتني: «عطارد؟». صمتُّ ثوانٍ قبل أن أجيبَها، أومأتْ برأسها ومشت، تبعتها وكلِّي أمل في الخلاص. كنت أخشى الالتفات إلى ما خلَّفته.

مشت في شارع 26 يوليو متّجهةً إلى وسط المدينة، كان الزحام على أشدِّه، ولا مكان للمَشي على الرصيف، لكنّها كانت تمشي بين الناس وكأنّها قد اعتادت فعل ذلك، حاولتُ التخلُّص من المحيطين بي بدفعهم أو بالهروب منهم، الناس ينقسمون بين من يعطِّل السير بسبب التلكُّؤ أو السير في الاتجاه المعاكس، والباعة المستقرِّين على يمين الرصيف ويساره، يحتلّون جزءًا كبيرًا منه، ويضيق المكان المتروك للمارّة حتّى يصل عرضه إلى متر واحد. لا أرى المنقَّبة بوضوح، لكنِّي تبعتُها من بعيد وحاولت الاقتراب منها كلّ دقيقة بالرغم من الزحام القاتل.

اتّسع الرصيف قليلًا، وخفَّ الزحام فاقتربتُ من المنقّبة، سألتها إلى أين نحن ذاهبان؟ فلم تجِب. استمرّت ماشيةً حتّى وصلنا إلى ميدان العتبة، وأكملتِ الطريق إلى شارع الأزهر، دخلَت إلى أحد الشوارع الجانبية ومشَت أمتارًا قليلة، ثم دخلَت شوارعَ أصغرَ وأصغر، حتّى كدتُ أن أتيهَ وأنا أمشي خلفها.

هذه رحلتي الأولى في القاهرة منذ مدّة طويلة، لا أرى تغيُّرًا يُذكر في البيوت والمباني، السيّارات لم تتغيَّر والزحام لم يخفَّ. لكنّ الناس أصبحوا أكثر غرابة، صياحهم يشقّ الهواء طوال الوقت، شجارُهم مندلَعٌ في كلّ شارع وأمام كلّ دكان، شتائم عديدة تُطلق على سبيل المزاح والإهانة والتهديد. واشتباكات بالأيدي وطعنات مُدى، أحصيتُ أربعة يتقيَّؤون على الرصيف ثمّ توقَّفت عن العدّ. ورأيت أحدَهم يرقدُ على الأرض ودمُه يسيل من تحته، لم يتحرَّك نحوه واحد من الناس فيغطّي جثمانه، كنَّا نفعل ذلك سابقًا؛ يستعيرُ أحدُهم جريدة ويغطّي بها الجثمان، ويثبّتها بحجارة صغيرة على الأطراف، وإذا كان هناك دمٌ فإنّه كفيلٌ بلصق الورق على الجثمان. الآن يعرضون الجثمان على الناس.

صعدت المنقّبة سلَّم بيت قديم وفتحت بابَ شقّة في الطابق الأوّل، دخلنا معًا.

خلعَت نقابَها، وأشعلت سيجارة، قال الرجل ذو الشارب الرفيع: «ألن ترفع القناع؟». كنت قد اعتدتُ النظرَ من خلال فتحتَي العينين الضيّقتَين، وأصبح وزنَ القناع شيئًا معتادًا على وجهي، رفعته فزال إحساسي بالاطمئنان، وعاد الخوف ليحتلّني، لم أترك القناع، متشبِّثًا بآخر حماية لي هنا. كنت آمنًا في البرج وأنا الآن في العراء. حدَّق الرجل في وجهي قليلًا، واستراح على كرسي، جلست في مواجهته ولم أرَ مانعًا من ارتداء القناع مرّة أخرى فارتديته. أنا الآن مواطنٌ عادي، تركتُ الداخلية منذ مدَّة وأصبحتُ بلا حماية، كلّ من أعرفهم رحلوا أو ماتوا أو انضمّوا إلى المقاومة ومَن ظلَّ ضابطًا في الداخلية صار عدوًّا لي بالتأكيد، لهذا فأنا مهدَّدٌ ولا حماية لي إلا قناعي. على الرغم من أنّي الآن في بيت آمن تابع للمقاومة، وأجلس مع ضابط اتصال تابع للمقاومة، إلّا أنَّ خُدعة الرجل جعلتني أتخوَّفُ منه كثيرًا.

ابتسم الرجل وقال: «سيمرُّ عليك أحدُهم هذه الليلة ليعطيَك رسالة ويحدِّدَ لك موعدًا، هناك اجتماعٌ مُهمّ ويجب أن تكون حاضرًا، أمثالُك قليلون هذه الأيّام وربّما لا تعرف كم أنت ضروري. يمكنك أن تخرج إن أردتَ، لكن عليك العودة قبل منتصف الليل، وفي كلّ الأحوال يجب أن تحتميَ بالزحام، إذا طلب أحدٌ الضبّاط بطاقتَك الشخصية، فأنتَ ميّت، اقتله إذا اضطررتَ. على كلّ حال أنتَ قتلتَ الكثيرين خلال الشهور الماضية، ومَن يعلم، قد تقتل الكثيرين قريبًا. ضبَّاط الشرطة الآن كما تعلم خونة، فلا مانعَ من قتلِهم».

لا أعلم إن كان الجالس أمامي ضابطًا أم لا، انتهى عصر الضبّاط الأقوياء، وطالما رُفع النحاسُ من فوق الكتفين فلا بدّ أن ينحنيَ الظهر. على الأرجح هو عضو في المقاومة مَهمَّتُه الإبلاغُ عن المواعيد، ومقابلة الأشخاص وتوصيلهم إلى المنازل الآمنة، لا خبرةَ له بالسلاح أو بالتفجيرات أو بالعمل مع الشرطة. قام من مكانه وودّعني ثُمّ خرج.

كنت مُرهقًا، تجوَّلتُ في الشقّة ووجدتُ في إحدى الغُرف سريرًا كبيرًا نظيفًا، تمدَّدتُ عليه وشعرت بالراحة على الفور، وخلال دقائقَ استسلمت للنوم. لحظة تذكَّرتُ المَنيَّ والدَّمَ، أردتُ أن أقومَ فأستحمّ بعد الرحلة المرهقة، لكنّي كنت قد غفوتُ بالفعل.

_______________________________________

روائي من مصر

من رواية “عطارد” الصادرة أخيراً عن” دار التنوير” في بيروت. من أعماله الروائية أيضاً “كوكب عنبر” 2010 و”عام التنين” 2012.

اللوحة للفنان التشكيلي السوري الدكتور غسان السباعي وقد رحل منذ أيام (1939 – 2015)

*****

خاص بأوكسجين