أسفار في غرفة النسخ
العدد 143 | 28 تشرين الأول 2013
بول أوستر/ ترجمة أسامة منزلجي


    الرجل العجوز يجلس على حافة السرير الضيِّق، وراحتا يديه مبسوطتان على رُكبتيه، ورأسه مُنكَّس، يُحدِّقُ إلى الأرض. ليس لديه أي عِلمٍ بأنَّ هناك آلة تصوير مُثبَّتة إلى السقف فوقه مباشرةً. مصراع العدسة يُقرقع بصمت مرةً كل ثانية، مُنتِجاً 86400 صورة ثابتة مع كل ثورة تحدث على الأرض. وحتى لو كان يعلم بأنه مُراقَب، فسيّان. لقد كان ذهنه شارداً في مكانٍ آخر، جانحاً مع النتائج المُلفّقة التي تحتشد في رأسه وهو يبحث عن جوابٍ لسؤالٍ يشغله.

    مَنْ هو؟ ماذا يفعل هنا؟ متى وصل وكم سيمكث؟ إذا حالفنا أي قدرٍ من الحظ فإنَّ الزمن كفيلٌ بأنْ يُخبرنا جميعاً. في الوقت الحالي، مهمتنا الوحيدة هي أنْ نُدقِّق في الصور بأشد ما يمكننا من تركيز ونُحجِم عن استنباط أية نتائج قبل الأوان.

    هناك عدد من الأغراض في الغرفة، وعلى كلٍ منها شريط أبيض مُلصَق على سطحه، ويحملُ كلمة واحدة مكتوبة بأحرف كبيرة. على الطاولة المجاورة للسرير، مثلاً، كُتِبَتْ كلمة “طاولة”. وعلى المصباح، كلمة “مصباح”. حتى على الجدار، الذي ليس غَرَضاً بالمعنى الحرفي للكلمة، هناك شريط يُبرِزُ كلمة “جدار”. يرفعُ العجوز بصره برهةً نحو الأعلى، يرى الجدار، يرى الشريط المُثبَّت على الجدار، وينطق كلمة جدار بصوت خافت. وما لا نعرفه حتى هذه اللحظة هو ما إذا كان يقرأ الكلمة المكتوبة على الشريط أم أنه ببساطة يًشيرُ إلى الجدار نفسه. لعلّه نسيَ القراءة لكنّه يُميِّز الأشياء كما هي ويعرف أسماءَها، أو  على العكس، فقدَ القُدرة على تمييز الأشـياء كما هي لكنه لا زال يعرف القراءة.

    إنه يرتدي منامةً قطنيّة مُخطّطة باللونين الأزرق والأصفر، وينتعل خِفّاً من الجلد الأسود. وليس جلياً بالنسبة إليه بالضبط أين هو. إنه في الغرفة، نعم، ولكن في أي مبنى تقع الغرفة؟ أهي في منزل؟ في مستشفى؟ في سجن؟ لا يستطيع أنْ يتذكَّر منذ متى هو هنا أو ما هي طبيعة الظروف التي تسبَّبت في نقله إلى هذا المكان. لعله كان هنا دائماً ؛ ربما هنا عاش منذ يوم مولده. ما يعرفه هو أنَّ قلبه مُترع بإحساسٍ لا يُصدَّق بالذنب. في الوقت نفسه، لا يستطيع أنْ يهرب من شعوره بأنه ضحية ظُلمٍ رهيب. 

    هناك نافذة واحدة في الغرفة، لكنَّ الظِلّة مُسدلة، وحسب ما يتذكَّر لا يطلّ أيٌ منها إلى الخارج. كذلك الأمر مع الباب بأكرته الخزفيّة البيضاء. هل هو مُحتَجَز، أم أنه حرٌ في الخروج كما يشاء؟ لا زال أمامه أنْ يتحقَّق من هذا الأمر – ذلك أنه، كما أثبتنا في الفِقرة السابقة، ذهنه شارد، منجرف نحو الماضي وهو يتجول بين الأشباح التي تتراكم في رأسه، تكافحُ لتُجيب عن السؤال الذي يشغل باله.

    الصور لا تكذب، ولكنها أيضا لا تُخبر القصة بأكملها. إنها فقط تُسجِّل الزمن الماضي، الدليل الخارجي. فمن الصعب، مثلاً، تحديد عمر الرجل العجوز من صور الأبيض والأسود غير المضبوطة جيداً. الحقيقة الوحيدة التي يمكن إقرارها بأي قدرٍ من اليقين هي أنه ليس شاباً، لكنَّ كلمة عجوز ليست تعبيراً مرناً يمكن استخدامه لوصف شخص يتراوح عمره بين الستين والمائة. ولذلك سوف نُسقِطُ صِفة رجل عجوز ومن الآن فصاعداً سوف يُشارُ إلى الشخص الموجود في الغرفة بالسيد بلانك. وفي الوقت الحاضر، لن يكون الاسم الأول ضرورياً.

    أخيراً ينزل السيد بلانك عن السرير ويقف، يتوقف برهة ليُثبّت توازنه، ومن ثم جرَّ نفسه نحو طاولة الكتابة في الطرف المقابل من الغرفة. إنه يشعر بالتعب، وكأنه أفاق من ليلة نوم مُضطربة، شديدة القِصَر، وبينما الخفّ يتقدَّم جرّاً على أرضية الخشب العارية، تذكَّرَ صوت ورق الزجاج. وعن بُعد، خارج الغرفة، خارج المبنى الذي توجد فيه الغرفة، يَسمعُ صُراخاً ضعيفاً لطائر – لعله غُراب، أو نورس، لم يُميِّزه. 

    انخفضَ السيد بلانك بجسمه ليجلس على الكرسي عند طاولة الكتابة. وقرَّر أنه كرسيّ مُريح إلى أقصى حد، مصنوع من الجلد البُنيّ الناعم ومزوَّد بذراعَين عريضَين لراحة مِرفقَيه وساعدَيه، بالإضافة إلى آليّة نابض خفيّ يسمح له بالاهتزاز نحو الخلف والأمام كما يُريد، وهذا ما بدأ بفعلِهِ حالما جلس. إنّ للاهتزاز إلى الأمام والخلف تأثيراً مُهدِّئاً عليه، وبينما السيد بلانك يستمر في انغماسه في ذلك الاهتزاز الممتع، يتذكَّر الحصان الهزّاز الذي كان في غرفة نومه عندما كان صبياً صغيراً، ومن ثم يبدأ يُعايشُ من جديد الرحلات الوهمية التي كان يقوم بها على صهوة ذلك الحصان، الذي كان اسمه ويتني ولم يكن، في تصوُّر السيد بلانك الصغير، مادة مصنوعة من الخشب ومكسوّة بالدهان الأبيض بل كان حيّ، حصان حقيقيّ.

    بعد قيامه بهذه النزهة داخل طفولته المُبكّرة، ارتفع الألم إلى حنجرة السيد بلانك من جديد. ويقول بصوت عالٍ وقلق: ينبغي ألا أسمح بحدوث هذا. ثم يميل نحو الأمام ليتفحَّص أكوام الورق والصور الفوتوغرافية المتراكمة على سطح طاولة الكتابة المصنوعة من خشب الماهوغاني. يتناول أولاً الصور، إنها مجموعة من صور الأبيض والأسود بقياس ثمانية بعشرة تُبيّن رجالاً ونساءً بأعمار وأعراق متنوعة. والصورة العليا تمثّل امرأةً شابة في أوائل عشرينيات عمرها. شعرها الأسود مقصوص قصيراً، وفي عينيها نظرة متوترة، مضطربة وهي تُحدِّق في العدسة. إنها واقفة في الخلاء في مدينة ما، ربما مدينة إيطاليّة أو فرنسية، لأنه تصادفَ أنْ كانت متمركزة أمام كنيسةٍ قرن-أوسطيّة، ولأنَّ المرأة تضعُ وِشاحاً وترتدي معطفاً من الصوف، فمن الأسلم افتراض أنَّ الصورة التُقِطَتْ في فصل الشتاء. السيد بلانك يُحدِّق في عينيَ المرأة الشابة ويُجاهد كي يتذكَّر مَنْ تكون. وبعد عشرين ثانية أو نحوها، يسمع نفسه يهمس كلمة واحدة: آنّا. ويغمره إحساس بموجة من الحب الغامر. يتساءلُ إنْ كانت آنّا امرأةً سبقَ له أنْ تزوجها، أو ربما، إنْ كان ينظر إلى صورة ابنته. وبعد برهة من تقليب هذه الأفكار في رأسه، تُهاجمه موجة جديدة من الإحساس بالذنب، ويعلم أنَّ آنّا ميّتة. والأسوأ، يشكّ في أنه مسؤول عن موتها. ويقول لنفسه، بل لعلّه هو الذي قتلها.

    أنَّ السيد بلانك يئنُّ من الألم. إنَّ النظر إلى الصور يُرهِقه كثيراً، فيُنحّيها جانباً ويوجّه انتباهه نحو الأوراق. هناك أربع أكوام منها، وكل منها بعلوّ ست بوصات. ودون سببٍ معيَّن يمدّ يده نحو الصفيحة العليا على الكومة الأبعد إلى اليسار. الكلمات المُدوّنة بخط اليد، المطبوعة بأحرف كبيرة شبيهة بتلك التي على الأشرطة البيضاء، تقول:

    “عندما يُنظَر إليها من أعماق الفضاء، تبدو الأرض ليست أكبر من ذرّة غبار . تذكَّر هذا في المرة التالية التي تكتب فيها كلمة “البشريّة”.

    من تعبير الاشمئزاز التي يجتاح وجهه وهو يُراجع هذه الجُمَل، نستطيع أنْ نتأكَّد تماماً من أنَّ السيد بلانك لم يفقد القدرة على القراءة. أما مَنْ هو كاتب تلك الجُمَل فلا زال سؤالاً مفتوحاً.

    يتناول السيد بلانك صفيحة الورق التالية على الكومة ويكتشف أنها مخطوط من نوعٍ ما مطبوع على الآلة الكاتبة. تقول الفِقرة الأولى فيه:

    “حالما بدأتُ بسرد قصتي، صرعوني أرضاً ورفسوا رأسي. وعندما نهضتُ واقفاً على قَدَميّ من جديد، ضربني أحدهم على فمي، ومن ثم لكمني آخر في معدتي. وقعتُ على الأرض. ونجحتُ في النهوض من جديد، ولكنْ ما أنْ باشرتُ في سرد حكايتي للمرة الثالثة، حتى رماني القائد على الجدار وأُغميَ عليّ” 

    هناك فِقرتان أُخريان على الصفحة، ولكن قبل أنْ يتمكَّن من البدء بقراءة الفِقرة الثانية، رنَّ جرس الهاتف. إنه نموذج دوّار أسود اللون من أواخر أربعينيات أو ثلاثينيات القرن الفائت، وبما أنه موضوع على الطاولة المجاورة للسرير، اضطُّرَّ السيد بلانك إلى النهوض عن كرسي الجلد الوثير وجرّ قدميه إلى الطرف المقابل من الغرفة. رفعَ سمّاعة الهاتف بعد الرنّة الرابعة. 

    يقول السيد بلانك “ألو” 

    يسأل الصوت على الجانب الآخر، “السيد بلانك؟”

    “إنْ شئت” 

    “هل أنتَ متأكّد؟ لا أستطيع أنْ أُجازف أبداً”

    “أنا لستُ متأكّداً من أي شيء. إذا شئتَ أنْ تناديني بالسيد بلانك، فيسعدني أنْ أستجيب لذلك الاسم. مَنْ المتكلِّم؟”

    “جيمس”

    “لا عِلمَ لي بشخصٍ يُدعى جيمس”

    “جيمس ب. فْلُود” 

    “نشِّط ذاكرتي”

    “لقد جئتُ لزيارتك بالأمس. وقضينا معاً ساعتين”

    “آه، أنت رجل الشرطة”

    “سابقاً”

    “صح. سابقاً. بمَ أستطيع أنْ أخدمك؟”

    “أريد أنْ أراك مرة أخرى”

    “ألم يكن حديثٌ واحد كافياً؟”

    “ليس بالضبط. أعلمُ أني فقط ذو أهمية ثانوية في هذه المسألة، ولكنهم قالوا إنه يُسمَح لي برؤيتك مرّتين”

    “أنتَ تُخبرني أنه لا خَيارَ لي في هذا”

    “أخشى أنَّ هذا صحيح. ولكن لسنا مضطرّين إلى التحدُّث في الغرفة إذا لم ترغب في ذلك. يمكننا أنْ نخرج ونجلس في المُتنزّه إذا كنتَ تفضّل هذا”

    “ليس لديّ ما أرتدي. أنا واقف هنا بالبيجاما وبالخف”

    “انظر في الخزانة. لديك كل ما تحتاج من ملابس”

    “آه. الخزانة. شكراً لك”

    “هل تناولتَ طعام إفطارك، يا سيد بلانك؟”

    “لا أعتقد. هل يُسمَحُ لي بالأكل؟”

    “ثلاث وجبات في اليوم. لا زال الوقت مُبكّراً قليلاً، لكنَّ آنّا ستأتي قريباً ” 

    “آنّا؟ هل قلتَ آنّا؟ “

    “إنها الشخص الذي يعتني بك “

    “حسبتُ أنها ميتة”

    “أبداً”

    “لعلّها آنّا أُخرى”

    “أشكُّ في هذا. إنها، من بين كل الأشخاص المتورطين في هذه القصة، الوحيدة التي تقفُ إلى جانبكَ بشكلٍ كامل”

    “والآخرون؟”

    “فلنقُلْ فقط إنَّ في الأمر الكثير من الاستياء، وسوف نتوقف عند هذا الحد”

________________________

  – الاسم  تعني صِفة الشخص المجهول الاسم والهوية والملامح الشخصية.                                                        

الصورة من أعمال الرسامة والمخرجة المصرية سلمى الطرزي

*****

خاص بأوكسجين