أرض الخسارات
العدد 191 | 21 أيار 2016
محمد المطرود


/

هل تريدُ مرافئَ بعيدةً لتصطَلي بنار الانتظار

هل تريدُ بحراً عميقاً لتستدلَّ بهِ إلى الأعماق

هل تريدُ بريةً، والقرىَ وشومُ الذاكرة، لتَسبحَ إلى الأعلى حيثُ الأحلامُ والأرضُ البسيطةُ كالنبات

هل تريدُ وجعاً لامعاً كنصلِ سيفٍ تحت شمسِ ظهيرتها، لتعرفَ المرضَ ووحشةَ تركِ الدارِ كأرملة!

هل تريدُ امرأةً تتلوىَ كأفعىَ برأسين

تستقيم في خطِّ الحياة كعودِ الرمان

 تلينُ كليلِ ربيعٍ وتخبثُ كشتاءٍ أسودَ

هل تريدُ الأنثىَ لتعرفَ الأنثىَ.. إذاً جّربها:

خذها أولاً في أسِّها الحيوان

ثمَّ عِشْها حينَ كانتِ النباتَ

وتنشغلُ بها الغاباتُ والحدائقُ والشجيراتُ القزمةُ ابنةُ الصحراء

وكانَ فيها بعضُ السمِّ وبعضُ الدواء، وكانَ صديقَها العطّارُ والطبيب!

هل تريدُ أنثىَ لأنّها أنثىَ

 شبهها بالأرض وخذ بالفروقاتِ بينَ الليل والنهار

بينَ البحار واليابسةِ، وبينَ البحار والنار، وبينَ النار والأوكسجين الحرِّ

وبينَ أعلىَ نقطةٍ تقتربُ من الجنةِ وأدنىَ حرفِ هاوية يُطلُّ علىَ الجحيم.

هل تريدُ_ لأنكَّ الإنسان_ أن تكونَ محورَ الكون وعمودَ العزمِ

اتبعْ( ابن عربي) وأئمةَ الفصاحةِ وادخلْ نواةَ الأرضِ العاطفيةَ.

سترىَ كلَّ الذينَ قتلوكَ

والذين قتلتهم تصالحوا في جسدكَ الناري

مثلما تصالحت في شخصكَ الذكورةُ والأنوثةُ

وتآختْ في غرفةِ النفسِ: النارُ المطمئنةُ والغازُ المسال

إذا كنتَ تريدُ مرآتكَ انظرْ في الأرضِ المؤنثة ولاتجرحَها

واسردْ عليها نشيدكَ الطويلَ ثُمَّ نشيجكَ

ولتعرفَ أنَّ ليسَ لكَ إلاّها، جَرّب صورتكَ فيها

وانعكاسَ ظلكَ بالشياطين الكثيرةِ على سطحِها المصقول.

//

هل تريدُ شجيرة( الخرنوب) ذاكرةَ الغبار في باديةِ القلب

هل تريدُ درباً ترابيةً تقودُ إلى البئر القديمةِ وثغاءِ(الطليان) و(جَوابِ) العطش

إذنْ حَصّنْ سماءكَ بكَ وارمِ سنَّ الأمنياتِ أعلىَ واطلبْ من الشمس

اطلبْ أن تكونَ الأرضُ منبسطةً والأنهار تسيلُ مع الريح كالعطر

واطلبْ كائناً مائياً روحهُ الماء وجسارتهُ النار ولايملكُ خديعة ضدَّ أحد!

وكنْ رسولَ نفسكَ إلى نفسكَ والآخرين وشيّدْ من الحبِّ بيتَ علاقتك

ولاتكنْ سائسَ الدسائسِ ولاتنصبْ فخاً للينابيعِ الفطريةِ وكن نفسكَ أخيراً

طوبىَ للبدو” الذي يشربونَ بولَ البعير” ولايذكرونَ أسماءَ نسائهم أمامَ العامةِ

يخيطونَ بالجرحِ جروحَهم، ويكظمونَ الغيظَ، فلا أفٌ ولا آه ولا آخٌ ولا أخٌ

طوبىَ للبدو الذينَ صاروا أنتَ

شَدوا رحالهم ومَدوا صوبَ حياتهم وعاشوا أحياءَ ويرزقون

يأكلونَ من لحمِ صبرهم إذا ما جاعوا ويشربونَ من مجاري الدمعِ

تريدُ إذن خسارةً أكبرَ لتسبرَ ذاكرتكَ وأرضاً أوسعَ لترجعَ

إذن هيئْ من الناسِ المعارفِ والمحارمِ والأصدقاء بطانةَ الوقتِ النازلِ

ولاتجزَعْ إذا رفعتَ صخرةَ الأيامِ الجديدةِ واصعدْ تاريخكَ أعلىَ

سترىَ كما يرىَ النائمُ_ وحقيقتكَ حلمكَ _ نزولكَ إلى الأسفل

اليومَ الذي كنتَهُ ولكَ فيهِ أرضٌ وخلانُ وعشيقة ُتفرغُ فيها خصوبتك

هو يومُ( تموز) وقدْ أرسلتهُ( عشتار) إلىَ الجحيم، فغابتْ الخضرةُ وبارَ النَسلُ

واشتغلَ الرَبعُ أمراءَ حربٍ في حروبِ القبائلِ

حتىَ سالَ دمُ الأخِّ على نَصلِ سيفِ أخيه..

   ///

هل تريدُ هذا العلو لتمكثَ فيهِ وأنتَ ابنُ السهلِ

أم تريدُ سماءً ثانيةً وطيوراً نبيلة عاليةً تقرأ عليها حزنكَ

منذُ كنتَ وحدكَ تفتشُ الظلالَ عن سِرِّ وقفتك كالأشجارِ

ليناً ومَرناً وحاذقاً في الوصولِ إلى قلبِ الحيوان البريء ومعرفةِ الله هناك

 هل تريدُ أن تكونَ أمةً جريحةً كاملةً؟  كن إذن” حي بن يقظان”وفلاتهُ الظليلةَ

واعبرَ الضوءَ بخفةِ الغزال وثقلِ الريشةِ

وآمالِ السفين ذات نو عظيم وبانتظارات المرافئ

ولتكن سيدَ نفسكَ وسيدَ المركبَ العابرَ إلىَ التضحية.

هل تريدُ إماتةَ الله في ذاتك حتى لاتكونَ لك أرضٌ

ولا طريقَ الرجوع إلى أرضِ ذاتك لتنهضَ ثانيةً كالفينيق

ولا فينيقَ يبدو، تقولُ الأسطورةُ: ماتَ الجميعُ ليلاً في الربيع

حينَ كنتَ ملكاً على( إبريل) تمسحُ على رأسِ الزروعِ والضروعِ

وتنسىَ ابنكَ النبيلَ الذي أنجبتهُ الطبيعة معفّراً بالغبار والمجاعات

وَهباً لتلكَ المكائدِ الصغيرةِ نسبةً للتاريخِ والكبيرةِ علىَ الفتىَ الوسيم..

ستأتي الحنطةُ بالزرازير وعصافير الدوري، وستكونُ لكَ حصتك من منطق الطير

فلا تجزعْ إذا أظلمت وإذا أجَدبَت ورأيتَ وحشَ الخديعةِ يدخلُ من النافذة وينفثُ اللهب

ولاتخفْ_ مثلكَ لايخافُ_ كانَ ملكاً على نفسهِ الموّارةِ

وكانَ عضيدَ امرئ القيس في سِفر( روما) ولم يمتْ مثلهُ في الطريق!

اليومَ أمرٌ وغداً أمرُ، كُسرتْ خابيةُ الأوهام وطارَ حمامُ الخَدَر بالرسائل

فلا سُكرَ بعدُ والأرضُ لهبٌ والأرضُ تدور.. تدورُ… وتَدور.

////

هل تريدُ عَجباً، فَتنسدلَ روحكَ على أطفالِ النبات، فتظلَّهمُ

هل تريدُ عَجباً فتمسكَ أطرافَ الصحاري وتقرأ شحيحَ الماء

هل تريدُ عَجباً فَينزَّ جرحُكَ وتَسيلَ أغيناتهُ في مجاري الأنهار الجافة، وعلىَ حوافِ الكتابةِ والرسومِ القديمةِ لقوافلِ طريق الحرير وحُماةِ القافلةِ حينَ يمرونَ بالواحاتِ آنذاك، ويعلقونَ الجنوب، كلَّ جنوبٍ علىَ خاصرتِهم كجرحٍ وكسلاحٍ وكأمنيةٍ بالوصولِ حيثُ الشام، مروراً بالجزيرةِ العليا ورقة علي بن الجهم وحماة وحمص وباقي المنحدراتِ إلىَ أغوارَ سحيقةٍ كانت فيها الحياة، كانت مثلَ أطفال النبات وسيمةً ولها عيونٌ وقدٌ أهيفُ وسواقيَ ماءٍ عذب!.

هل تريدُ عَجَباً، اصنعَ قاربكَ من خشبِ الأسطورة واقذفْ اليمَ بخوفكَ

ولا تنتظرْ من المرافئ سوىَ الأنين ومن المنارات سوىَ الإيهام وضلالة الأضواء

لو لكَ حياةٌ هي حياتك، ليستْ حياةَ غيركَ، أو اسمَه فوقَ ظلكَ القصير هذه الأيام

اصنعها من معدنٍ حميدٍ لهُ رهجُ الذهب والتباس اللون في النحاس وصلابةُ الرمادي في الحديدِ

منجاتكَ: خسرتَ أرضاً، سُميَّتْ أرضَ الخسارات، وربحتَ يوماً آخرَ لتصطادَ فيه ذاكرةً جديدة

لهذا أنت ابنٌ طفرةٌ زلزلٌ للحياة

ولمْ تكُ ابناً مطواعاً كمعدنٍ لينٍ للموت!

 

هل تريدُ عجباً فلا تعشْ رجباً لترىَ الدوائرَ تدورُ

وابدأ من نقطةِ الصفرِ وامشِ مؤمناً ومرتداً إلى ماكنتَ

وانتهِ بالصفر، تقولُ الأسطورةُ عن دورانِ آدمَ والشمسِ حولَ الأرض:

آدمُ ظَفِرَ بالأنثىَ” ضلعَهُ القاصر” والشمسُ ظفرَت بالنارِ وأنضجتنا مثلَ خبزٍ

هلْ تريدُ رجوعاً

فاحزمْ باقةَ أيامكَ المتبقيات لأمرٍ تقصدهُ وامضِ لتزدانَ الحياةُ هناكَ

وتسوءَ الحياةُ هنا، حيثُ أنتَ، تعبّرُ قطاراً طويلاً فوقَ جثتك دونَ صفير من القطار أو صُراخاً أزلياً منك، يمتدُ من هذهِ الخضرةِ الشاسعةِ إلىَ أطرافِ باديةٍ شاسعةٍ. تغيبُ فيها الرؤية لصالح الرؤيا، وتغورُ الأنهارُ لصالحِ الأفاعي، ويموتُ النبتُ الندي لصالحِ الشوكِ وهكذا..

هكذا تريدُ أزلاً لتعرفَ كيفَ عاشتِ الآلهة، وتعيشُ، وكيفَ سَتعيشُ معزولةً عنِ المؤنثِ المخادعِ والواهمِ بالخلود، وهل هذا الأوكسجينُ السائلُ كغيومٍ زرقاءَ حولَ الكونِ يكفي لتستمرَ الخليقةُ بالجريانِ، وتصقلَ الطميَّ بالنارِ والحكايات حتىَ تكتملَ رغبةُ الناجيَ الوحيدِ من وساوسهِ ضدَّ رغبةِ المهزومِ في أيقونة البُداة.

سيأتي وقتٌ بأصابعَ طويلةٍ، وشعرٍ طويلٍ، يشبهُ الغابةَ وحزنَ العشب في المروياتِ الزراعية. ستأملُ أخيراً مرفئاً لتنتظر ويوماً لتقول:” الدهرُ يومان: يوم لك ويومٌ عليكَ”، فابحرْ نحوَ أرضكَ، الموجُ هادئ، الريح خفيفة، والأفعى لانت ملامسها، وإذا كانَ من موتٍ، فليكُن على ذلكَ الطمي المصقول بالنار، فلا طعنٌ للقنا ولاخفقٌ للبنود”هنا، إنَّما حكايةٌ تتبعُ جنازة، وجنازةٌ تتبعُ حكاية، والأوابونَ/ التوابونَ عَن غفلةٍ سبقتْ وسجدةٍ سقطتْ في الخطيئة، يسيرونَ خَبَباً نحوَ الديار في أرضِ الخسارات.. يَصلونَ ويُصّلونَ ولايَصلونَ ولايُصّلونَ، لكنَّ أفقاً يبدو، أيادٍ تُلوّحُ بالمناديل، وثمةَ إشارة !.

 

***

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. صدر له "اسمه أحمد وظله النار"" 2014.rn"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: