أخيلة
العدد 227 | 19 شباط 2018
هرمن هسّه


   أحياناً من المُثير للاهتمام والمفيد أنْ نحاول مراقبة تطوُّر ما يُسمّى “قطار التفكير”، والذي هو في المعتاد أقرب إلى سلسلة من الأفكار، والصور، والأخيلة تقفز دون استدعاء من العماء. والناس عادة “يُفكّرون” طوال النهار (وطوال الليل)، لكنَّ أفكارنا في معظم الأحيان لا تلج الوعي بل تضعف بالتدريج ثم تصمتْ عند العتبة. والتحليل النفسي يعزو هذا إلى “رقابة” الوعي. 

   صباح يوم أمس اتّخذَ “قطار تفكيري” مساره في ذهني بينما كنتُ أنزع العشب الضارّ من حديقتي وأُغذّي الأمل الواعي بألاّ يُزعجني بريد الصباح وأنا أمارسُ هذا النشاط – وطبعاً، على مستوى أعمق، لا واعٍ، كان هذا بالضبط ما أردتُ، أي أنْ يُزعجني البريد حتماً وأنْ أواجه مهامَ جديدة وحافزاً جديداً.

   بدأتْ “أفكاري”، حسب ما أتذكّر الآن، بذكرى نقدٍ عِلميّ يشرح كل المواهب والإنجازات الفنيّة على أنها نوع من المرض، وهذا بدوره ذكَّرني بحديث أجريته في الليلة السابقة مع زوجتي.

   قلتُ في نفسي، حسنٌ، إذا كانت العبقريّة مرضاً، وإذا كانت كل محاولة من شاعر أو رسّام أو مؤلِّف موسيقيّ ليست أكثر من محاولة يائسة للتعويض على مستوى مختلف، أكثر روحانيّة، عن نقصٍ في شخصيته، وفي حياته، وفي خُلقه، فإنَّ الشخص “الطبيعيّ”، أي، المتحرِّر من مثل تلك الأشياء القسريّة، هو بالضرورة شخص غير موهوب. نعم، المخلوق البشري الطبيعي لا يتّصف ولا ينبغي أنْ يتّصف بأي نوع من “الموهبة” ما عدا الموهبة العامة بكونه حياً وبمقدرته على الإبقاء على نفسه حياً أطول مدّة ممكنة. فكّرتُ برهة في هذا بلمسة من سُخرية، بقدر من الخبث اتجاه الطبيعيين من الناس الذين أهينهم بوجهة النظر هذه. لكنني أدركتُ على الفور أنها مجرد مزحة صغيرة، وسوف تذوي وتموت في الحال، ولكنْ مع ذلك تكمنُ خلف هذا المُزاح – “إنَّ الإنسان الطبيعيّ هو إنسان غير موهوب” – أفكارٌ غاية في الجديّة والأهميّة.

   طوال حياتي كان عالمي هو عالم الشاعر، صاحب المُخيّلة، الذي يُدافع عن أقرانه، عن وجوده، عن موهبته، عن حاجاته الروحيّة – بطريقة لا تخلو من خبث ومن خوف سرّي – على حِساب الشخص العادي. ولكن خلف هذا كله يكمن أيضاً الحسَد، والقلق؛ لقد أمضيتُ ساعات طوالاً وأياماً كان يُسعدني كثيراً خلالها لو أنني أنا أيضاً “طبيعيّ”. مع هذه الفكرة الجديدة غيّرتُ الطرف الذي أناصره؛ أصبحتُ الآن أميل إلى أنْ أُحسِن الظن بالشخص الطبيعي وأنْ أنظر إلى الفرد “الموهوب” نظرة منتقدة، بل في الواقع بعدائيّة.

   نتيجة قراءات متنوعة حديثة، تعرَّفتُ على عبارة “تسييس الروح”، وأشعر الآن أنني منجذب إلى هذه الفكرة، التي لطالما وجدتُها بغيضة إلى أقصى مدى. وبدل أنْ أنظر إلى الشخص العادي بعين الريبة، كما كنتُ أفعل من قبل، بدأتُ أتفحّص “رجل المُخيّلة” تحت مجهري، وانتقيتُ كبداية للانطلاق مسألة تسييس الروح. واستحضرتني تصريحات ومقالات صدرت حديثاً جداً. نعم، وحقّ الله، أولئك المفكرين في حاجة إلى تسييس أنفسهم! على الرغم من أنَّ الشعراء يُسمّون أنفسهم “مفكرون”! أيُعقَل أنْ يُسيء المرء فهم نفسه ومهمّته ويُسيء تأويلهما بشكل كامل هكذا أو بمثل هذا الحمق؟ كان هناك فقط شيء واحد حسَنْ في هذا الأمر، هو أنَّ “المفكرين” شعروا بقدرٍ من الذنب فيما يتعلَّق بالحرب وببؤس العالم. ولا شك في أنَّ أولئك “المفكّرين” الموقَّرين كانوا متورطين، بل في الحقيقة، متورطين بعمق، وحيوية. كانوا قد توقفوا منذ زمن بعيد عن كونهم شعراء، أصبحوا صحافيين ورجال أعمال أو صوفيين. وبعد ذلك تقدّموا مُطالبين “تسييس الشاعر”! وكأنَّ شعورهم بالذنب يكمن في أنهم لم يكونوا حتى ذلك الحين مُسيّسين بالقدر الكافي، وفي أنهم لم يولوا إلا القليل من الانتباه للمواطن، للقانون، وللسوق، أو ما يُسمّى بالواقع. يا إلهي، إنَّ هذا الواقع الكئيب كان عالمهم وملاذهم؛ كانوا قد كفّوا منذ زمن بعيد عن القيام بالعمل الوحيد الذي خُلِقَ الشاعر للقيام به، أداء واجبٍ مُقدّس نحو العالم الأكثر من حقيقيّ، الأبدي. ولهذا السبب فإنه عندما يجتمع أولئك الأشخاص معاً في مكان عام لا يُسمّون أنفسهم شعراء بل “مفكرين”، وهذا أشبه بعاشِق يصِفُ نفسه بأنه “حامل أسهم في سوق بورصة القلب”. ولهذا السبب أصبح كل شيء منحرفاً، وأصبحوا يتصرفون بشذوذ، وخطر لهم أنْ ينخرطوا في السياسة. لقد اعتقدوا أنه لو كان هناك عددٌ كاف منهم لتشكيل عُصبة كبيرة، من أجل كسب تمثيل لهم في البرلمان وبذلك يرسّخون “الروح” بوصفها اهتماماً يرتدي ثوباً سياسياً على غرار الصناعة والزراعة، فسوف تكون المكاسب حينئذٍ كبيرة.

   بعد أنْ نفّستُ بهذه الطريقة عن قدرٍ معيَّن من الغيظ والحقد، رجعتُ بأفكاري إلى الشاعر ومواهبه. لماذا يوجد شعراء؟ ماذا تطلب الطبيعة منهم؟ لماذا كانت قيمتهم عالية في وقت كان الأصحّاء والطبيعيون في الحقيقة هم الخالون من الموهبة؟

   على درب الارتقاء من السمك، إلى الطيور، إلى عصر الحيوان الذي يشنّ الحروب في زمننا، على الدرب الطويل الذي نأمل في أنْ نُصبح بوساطته في الوقت المناسب رجالاً وآلهة، ما كان يمكن أنْ يكون “الطبيعيون” هم الذين بذلوا الجهد قُدُماً للانتقال من مرحلة إلى مرحلة. لقد كان الطبيعيون مُحافظين، يتشبّثون بما هو صحيح وتقليديّ. إنَّ العظاءة الطبيعية لا تخطر لها أبداً فكرة أنْ تحاول الطيران. والقرد الطبيعي لا يفكِّر أبداً في التخلّي عن شجرته والمشي باستقامة على الأرض. إنَّ أول مَنْ فعل هذا، وأول مَنْ جرّبَ القيام به، وأول مَنْ حلُمَ به، كان صاحب رؤيا وغريب الأطوار بين القرود، كان شاعراً، مُبدِعاً، وليس قرداً طبيعياً. الطبيعيون، كما اكتشفت، وُجِدوا ليوفّروا طريقة راسخة في الحياة والدفاع عنها، لتقوية سلالة ونوع بحيث يتوفّر دعم ومؤونة حيوية لها. لقد وُجِدَ أصحاب الرؤى لكي يُغامروا بقفزاتهم، لكي يحلموا بما لا يمكن الحُلم به، حتى ينشأ ربما حيوانٌ برّي من سمكة ورجلٌ قرد من القرد.

   وهكذا لم يكن “الطبيعيّ” في الحقيقة يمثّل أي شيء مِثاليّ بل هي مجرد تسمية لوظيفة، الوظيفة المُحافِظة، التي تحفظ النوع. أما “الموهوب” أو “صاحب الرؤيا”، من ناحية أخرى، فكان اسم وظيفة اللعب والاختبار، والتعامُل مع المشاكل كألعاب. قد تتسبَّب في تدمير المرء، أو في إصابته بالجنون، أو في استسلامه للانتحار. ولكن في ظروف معيَّنة يمكن للمرء أنْ يخترع أجنحة، ويخلق آلهة. باختصار، بينما كان الطبيعي يحرص على المُحافظة على النوع كما هو، فإنَّ مهمَّة “صاحب الرؤيا” كانت الحرص على دعم الشيء المُقابِل الذي يمتلكه الجنس البشري، أي، المثل الأعلى، ولم يضِع أبداً. إنَّ حياة الجنس البشري كانت تتحرك جيئة وذهاباً بين هذين القطبَين: التمسّك بقوة بما تم الحصول عليه، ورمي ما تمَّ الحصول عليه من أجل الكفاح للحصول على المزيد! هذا كل ما في الأمر. ومهمة الشاعر كانت العمل على جانب المُثُل العليا، لخلق مُثُل عليا، واكتساب حدسيات، وأحلام.

   وهذا هو سبب وجود ذلك “الواقع” الذي لا يمكن للشاعر أنْ يؤمن به، عالم الأعمال ذو الأهميّة القُصوى، والأحزاب السياسيّة، والانتخابات، والمبادلات الخارجيّة، والألقاب الشَرَفيّة، والمراتب، والأنظمة الروتينيّة، وما إلى ذلك. وإذا أصبح الشاعر مُسيّساً، فإنه يُدير ظهره لواجبه الإنسانيّ في الحلم النبوئيّ ولخدمته المثل الأعلى؛ لقد كان يتطفّل على شأنْ الرجال العمليين، الذين، من خلال إصلاحات انتخابيّة وما شابهها يعتقدون أنهم يُحققون التقدُّم، في حين أنهم فقط يُحاولون، وهم يزحفون ببطء على طول القرون متخلّفين عن فِكر أصحاب الرؤى، أنْ يعملوا على مستوى ضئيل على أحد تفاصيل حدسيات وأفكار مَنْ سبقهم. وهكذا فإنَّ السياسيّ الذي يُكافح من أجل سلامٍ دائم هو فقط واحد بين آلاف النمل الذي يعمل على إدراك حُلم سحيق في القِدَم. لكنَّ خالق هذا الحلم كان العقل الذي حلُمَ أولاً قبل آلاف السنين بالعبارة الهادرة “لا تقتل! ” – فكرة لم توجد أبداً خلال كل تلك الملايين من السنين من تاريخ الأرض والتي منذ ذلك الحين وهي تعمل في تاريخ الإنسانيّة عمل الخميرة وسوف تواصل عملها إلى أنْ تتحقَّق ذات يوم آتٍ، تماماً كما اكتسب الجنس البشريّ القامة المُنتصِبة والبشرة الناعمة.

   حتى هذه النقطة سار قطار الفِكر بيُسر وسهولة، متدفقاً خارج مسرحيّة اللا وعي، كفقاعات الهواء المرتفعة من النافورة. والآن كانت هناك استراحة قصيرة، فقد ضاعت مني حَلَقَة من نوعٍ ما، وشعرتُ فجأة بالانزعاج. لقد رأيتُ قطار الأفكار التي ضمرتها يغيبُ مبتعداً خلفي ولم يعُد في استطاعتي أنْ ألمسها. بدل ذلك، واجهتُ شعوراً بغيضاً، فكرة بغيضة تشبه ما يلي: لِمَ فكَّرتَ في هذا كلّه؟ إنَّ هذه ليست أفكاراً، إنها مجرد أقنعة وأدوات للتنكُّر يختبئ خلفها دافع! شعرتُ بأنه نتيجة لذلك الحديث الذي دار مع زوجتي في الأمسية السابقة، ترسَّبَت داخلي شوكة، وكنتُ في حاجة إلى أنْ أُبرِّرَ نفسي لنفسي كشاعر، لأننا بالأمس كنا نتحدث عن هذا الأمر بالذات، عن كم هو غريب ومُخيف حقاً أنَّ الفنانين كلهم تقريباً لا يُدركون خلال حياتهم إلا القليل أو لا شيء من القيم النبيلة، والممتازة والمثاليّة التي طرحوها في أعمالهم. إذن هذا هو الهدف. لقد تبعتُ هذه المئات من الدوائر الفكريّة، التي لم يُسجَّلَ منها حتى جزء من المائة هنا، لمجرد أنْ أتخلَّص منه، متراجعاً بأخيلة حيويّة إلى القرد والعظاءة.

   والآن بعد أنْ نزعتُ الشوكة بعثوري على المنبع الأناني السرّي لقطار تفكيري، استطعتُ أنْ أبتسم وأستمر قليلاً في الحلم، بلا عائق.

   حلمتُ بأنَّ الرجل المثالي سوف يتكوَّن مما يلي: سوف يكون شخصاً “طبيعياً” ليس في حاجة، في الحالة العاديّة، إلى أنْ يرفع الأشياء المكبوتة إلى عالم الروح، الذي يعيش بأمان وبسعادة داخل نفسه. لكنَّ هذا الرجل، الذي لا تدفعه الحاجة إلى فضيلة أو دافع داخليّ قوي للتعويض عن الضعف عبر أعمالٍ فنيّة، يجب أنْ يكون قادراً إرادياً على إثارة هذه الحاجة داخل نفسه. وبين حين وآخر يقوم، كنوع من اللعب أو الرفاهيّة، بتطوير مواهب خاصة، حاجات خاصة، ربما على غرار ما يُمشّط المرء شَعره بأسلوب مختلف على سبيل التغيير. وسوف يتوصّل إلى معرفة نعيم الحلم، وعذاب الخلق، وخوف وبهجة الإنجاب، ولا يعرف لعنتها؛ لأنَّ في استطاعته أنْ يعود إلى المنزل بعد كل لعبة راضياً، وبفعل إرادة بسيط سوف يضع جانباً، كأنما على رفّ، الكفاح داخله، لكي ينتج توازناً مختلفاً. إنَّ هذا الشخص المثاليّ سوف يكتب أحياناً شِعراً، وأحياناً يؤلّف موسيقى، وأحياناً يُخرِجُ من داخله ما يتذكّر عن القرود، وفي مناسبات أخرى عن حدسه حول حدوث تغيُّر مستقبليّ وظهور أمل، وسوف يسمح لهذه بانْ تلعب كما يُلعِّب رياضيّ مُدرَّب مجموعة من عضلاته المعزولة، مستمتعاً بها ويختبرها. وهذا كله سوف يظهر فيه ليس بالإكراه أو بدافع الحاجة بل كما يحدث في طفل صحيح، مبتهج. وأفضل من هذا كله، أنَّ هذا الشخص المثاليّ لن يُقاوم بمرارة ودمويّة بينما نقوم نحن المساكين بإجراء تغيير فيه عندما يتطلَّب مطلب جديد من المثل الأعلى ذلك منه، بل سوف يكون منسجماً كل الانسجام مع نفسه، ومع المثل الأعلى، ومع القَدَر؛ سوف يتغيَّر بسهولة، ويموت بسهولة.

   وها أنا من جديد على الأرض المزعجة. أنا نفسي لم أتغيَّر راغباً، أنا نفسي لن أموت بسهولة. كنتُ أعلم، أعلم جيداً وعن يقين، أنَّ كلّ موت هو أيضاً مولد، لكنني لم أعلم ذلك بصورة تامة، بكامل كياني؛ لقد تمرّدت كتلة من الأنسجة داخلي ضدّه، جزءٌ مني آمن بالموت، وجزء آخر كان ضعفاً وخوفاً. كان ذلك شيئاً لم أرغب في تذكّره. وهكذا فرحتُ عندما قرع ساعي البريد جرس الباب، وهرعتُ في الحال لمقابلته.  

*****

خاص بأوكسجين