آية اليوم السابع
العدد 161 | 09 تشرين الثاني 2014
فكري عمر


وقف وحده أعلى التل، حوله الناس فى دائرة كبيرة يهتفون: ليحيا الزعيم. ليحيا السيد. ليحيا الأب. 

أشار بسيفه الذى يقطر بدماء الأعداء أن اهدأوا. صمتوا فى انتظار كلمته: أيها الأبطال، لقد انتصرنا كما لم يحدث من قبل، نصرنا هذا تاج لوادينا ولىّ. كان اليوم الأول يوم شعور جارف بالقوة؛ لسحق الأعداء. 

طرد الجميع خيوط النعاس من عيونهم فى اليوم الثانى للنصر. تجمعوا حول التل الذى اتخذه مكانًا لإقامته. رأوه كائنًا جباراً بذلك اللباس الهائل من جلد الأسد.. أعادوا نفس الهتافات. أسكتهم بإشارة من سيفه الذى ما تزال به بقايا من الدماء لم يمسحها: أيها الناس، أنا قائدكم وأنتم كلكم جيشى، حامل السلاح فى فرقته، الفلاح فى أرضه، الحداد خلف ناره، المرأة فى بيتها. ألست بسيدكم؟! 

نطق الجميع دون أن يعطوا لأنفسهم فرصة للتشاور: بلى، أنت سيدنا. 

ملأت ابتسامة وجهه، أو هكذا خيل إليهم وهو يأمرهم بالعودة إلى أعمالهم. 

تجمعوا حول التل فى صباحهم الثالث. خرج من مكمنه. صفقوا وهتفوا كالمعتاد. أسكتهم بإشارة من سيفه، ودوى صوته غاضبًا: أيها الناس، تأتون لتحفظوا كلماتى فى بردياتكم، ثم تنسون قائلها طوال النهار. سارعوا بالنفى فى هتاف مدوِ بحياة الزعيم المحارب الجبار. تكلم قبل أن يشرعوا فى التفكير: يا أوغاد، تبنون البيوت، وتتمتعون بالسرارى، وتكنزون الذهب بعدما كنتم قطيعًا متفرقًا، ثم تنسون من يعيش وحيدًا على التل.. 

اتخذ الجميع قراراً فى اللحظة والتو بعدما تذكروا حياة الخطر والجوع والضياع. اتفقوا سريعًا على التنازل عن نصف ما يملكون له. مَنْ لم يشارك فى القتال تبرع ببعض أيامه فى خدمته. نظموا كتائب حرفيين. بنوا قصرًا على التل بأسوار عالية بإرشاداته، كما شكلوا فرقًا للحراسة من أشدهم بأسًا.

انبهرت أعينهم بما رأوا فى اليوم الرابع.. وقفوا وراء الأسوار. كان القصر قد شيد كأنما ساهم الجان فى بنائه. خرج إليهم فى ثوب من الحرير لم يحل دون رؤية جسده الجبار: أيها الناس، سنعمل سويًا. سأهبط إلى أسواقكم، وأدخل بيوتكم. 

استقبلوه فى منتصف نهار اليوم الرابع بفرح مريب ما لبث أن تحول إلى نقمة مدفونة فى النفوس.. 

حينما يحدقون فيه ترتعب أطرافهم. هو الوحيد الذى ما يزال يحتفظ بهذا الجسد العملاق، وبرأس تشبه كثيرًا رأس التيس بين بنى البشر حسب ما يرون، وأصابع أظافرها كالمخالب، وقبضة يد كالحجر، كأنما هو صورة من صور بعض آلهة قديمة وجدوها مرسومة على جدران مقابر الآباء والأجداد. كان تكوينه الغريب يجعلهم يفكرون كثيرًا فى أصله وفصله، وقدراته البشرية الكاملة كالتفكير، والكلام ومعاشرة النساء. 

لقد وقف على حدود الوادى ذات صباح حاملًا سيفه وعرى جسد المسخ الذى يحمله. حاول الكثيرون أن يطردوه خوفًا من أن يجلب لهم شؤمًا ما لشكله المشوه. لم تفلح جموعهم فى التصدى لهذا الكائن الجبار فعينوه قائدًا لصد هجمات الغزاة، حتى سحق لهم آخر الأعداء، وبدلًا من اندماجه بينهم إذا هو يعتزلهم. يعيش وحده بين مجموعة كبيرة من الخدم والنساء التى كان يستحلها وحده. 

فى اليوم الخامس ظهر فوق كرسى عملاق حمله عشرون فردًا من حراسه. كان السيف قد مُسح ما به من دماء، فعكس فى عيونهم أشعة صافية، كما رفع بيده الأخرى صولجانًا ذهبيًا على هيئة أفعى؛ فأغرى الجميع بالركوع. رن صوته كالطبل: يا أوغاد، عمرتم البيوت، والطرقات، والأسواق وخربتم المعابد والمذابح وأغضبتم الإله؛ فتنازلوا رغمًا عنهم عن بعض القليل الذى يملكوه؛ وأعادوا المعابد إلى سالف عصر القدماء المهزومين، وأمام المذابح ارتوت الأحجار بدماء الذبائح، وأعيدت إلى الأذهان طقوسُّ غامضة مارسوها بنزق حسب ما يذكرون من بقايا الملاحم التى حكاها الآباء والأجداد.. 

وفى اليوم السادس خرج إليهم أحد مساعدى الزعيم: لا تنزعجوا، هو فى خلوة مع الرب. لقد منحكم فى ذلك اليوم عيدًا فافرحوا، وارقصوا بعدما ذبحتم الذبائح، وتقربتم من الإله.. وهكذا فرحوا ورقصوا طوال اليوم غير أن إحساسًا بالخوف كان يرافقهم فى كل خطواتهم.

خرج الجميع فى صباح اليوم السابع يجرون أقدامهم نحو القصر الذى ارتفع حتى خيل إليهم أن سحب السماء تستريح على أسواره. وقفوا وقلوبهم ترتجف بالخوف من ذلك الكائن الذى وسموه فى يوم الانتصار الساحق على الأعداء بـ”الزعيم والسيد والأب”. لقد شاركوه الحرب وهم الآن لا يقدرون على ردعه، ولا ردع حراسه الأشداء الذين تسللوا للبيوت فى يوم عيدهم؛ فنزعوا كل أسلحتهم، وقتلوا كل حداديهم وسائسى خيولهم، وجمعوا المحاصيل القليلة من بيوتهم. 

انتظر الناس أن يخرج إليهم ليطلبوا عطفه.. ليطلبوا لقمة تسد عصافير بطونهم المريضة، وبطون أطفالهم، ونسائهم وحيواناتهم. انتظروا حتى فاجأهم نفير كالرعد من داخل الأسوار. ركعوا، وأخفوا وجوههم بين أياديهم. انتهى النفير الوحشى. سمعوا صوتًا من قائد الرماة من قبة فى أحد الأسوار: أيها الناس من الآن دخلنا عهدًا جديدًا، تنتظرون كلمته. تنتظرون طلته المباركة وجسد الوحش الذى يحمله، جسد الوحش الذى يحميكم فى الوادى. وبركة الإله الذى سلمه المُهمَّة. إذًا انتظروا فسيخرج عليكم بعد النفير الثانى. 

كان الجميع يتبادلون الهمس.. حدث لهم فى ستة أيام فقط ما حدث لآبائهم وأجدادهم فى مئات الأعوام. انتظروا النفير الثانى حتى لسعتهم كرابيج شمس الظهيرة دون أن يقدر أحد منهم على الحركة.. انتظروا حتى سحبت الشمس ضيائها من أجسادهم وأجساد أولادهم وأبقارهم. انتظروا.. وانتظروا.. وانتظروا حتى أطل الليل على هياكلهم العظمية المتشابكة خلف الأسوار؛ فى انتظار النفير الثانى. 

_______________________________

روائي وقاص من مصر

 

الصورة من فيلم “الجمال العظيم” للمخرج الإيطالي باولو سرنتينو. للتعرف على الفيلم  يمكنكم قراءة  (“الجمال العظيم”.. مفاتيح لأبواب روما المشرعة) ضمن مواد هذا العدد.

*****

خاص بأوكسجين