آدم
العدد 243 | 02 أيار 2019
زياد حسون


 

استطاع آدم أخيراً أن يخرج الكرسي القابل للطي من صندوق السيارة. كان قد اشترى منذ سنوات كرسيّين ووضعهما في الصندوق، متفائلاً أنّه سيستخدمهما مراراً على الشاطئ وفي الجبل والغابة وفي أي مكان ناء لم يكنْ ليخطر بباله، لكنّ حرباً ومصائب أخرى جعلتْ التفكير في ذلك أمراً يبعث على الضحك. وهكذا دُفنَ الكرسيّان عميقاً في الصندوق ولم يخرجا ولو لمرّة واحدة، بل وتراكمت فوقهما عبر السنين إضافةً إلى طبقة الغبار السميكة عشرات الأغراض عظيمة وعديمة الفائدة. لكنّه اليوم – وأثناء مروره بعد غياب دام لسنوات بالموقع الذي لطالما حلم أن يبني فيه ملاذه الأخير- شعرَ أنّه اليوم المناسب ليَخرُج الكرسيّ أخيراً إلى النور. جلس بعد أن نفض ما يمكن نفضه من الغبار وأخذ نفساً عميقاً كأنّه يريد أن يستحضر الرائحة العتيقة للمكان القابع على الطرف البعيد للقرية النائية. كانت الشمس قد غابت تماماً، وأضواء المدن الساحلية الثلاث التي يكشفها موقعه المرتفع بدأت بالظهور.

-“سيكون منزلاً صغيراً، لكنّه سيعطي إحساساً كبيراً بالرحابة، لا جدران داخلية أبداً.. غرفةٌ واحدة كبيرة تحوي كل شيء، والنوافذ أمرٌ هام جدّاً.. الكثير من النوافذ الواسعة.” ذكّر نفسه بالمخطط الذي رسمه مراراً في رأسه وعلى الورق، وأجرى عليه العديد من التعديلات مع الوقت، حتّى أنّ الحماس أخذه في مرحلة ما لدرجة ذهابه خصيصاً، ومتكبّداً عناء قطع المسافة الطويلة من المدينة إلى هذه البقعة النائية كي يأخذ قياسات فعلية، ويتأكّد من زوايا الضوء واتجاهات الهواء ويعاين الاطلالة من النوافذ الافتراضية. أراد أن يكون كل شيء مثالياً لمرة واحدة لكن نهائية.. لكنّ هذا كان منذ زمن بعيد،، فهو لم يأت إلى هنا منذ سنوات.

كانت ليلةً صافية والسماء مكتظّة بالنجوم اللامعة، لطالما أذهله منظرها حين كان طفلاً يقضي معظم إجازات الصيف في الضيعة البعيدة، كما لطالما أربكه كم يختلف مشهد السماء وكم تقلّ النجوم وتبهت حين يعود إلى المدينة. عزا الأمر وقتها أن الضيعة ترتفع فوق جبل شاهق ما يجعلها أقرب للنجوم، وقيل له أيضاً أن السبب هو اكتظاظ البناء في المدينة الذي يحجب اتّساع السماء واكتظاظها. لم يفكّر في سببٍ منطقي اليوم وهو يتأمل المشهد المذهل، فكّر فقط أنّه رائعٌ وحسب، وأنّ لحظةً كهذه يجدر بها ألّا تنتهي أبداً.

-” آدم.. هل هذا أنت؟”. صُعق الرجل الذي كان غارقاً في تأملاته ومخطّطاته وأخذ يتلفّتُ حوله باحثاً عن مصدر الصوت: ” نعم! من هناك؟”.

-” هذه أنا.. ريما.” قال الصوت الأنثوي مقترباً.

-” ريما!!” قال آدم بذهولٍ يوحي بالبلاهة.

-” ما بالك؟ ألم ترني أقترب على طول الطريق الصاعد من الضيعة إلى هنا؟”. قالت مبتسمة بعينين تسرقان لمعان النجوم.

-” أبداً.. كنت شارداً تماماً. ما الذي تفعلينه هنا؟”

-” حسناً!! لأكون صادقة معك، لقد وضعتُ خلال عشرين سنة الكثير من السيناريوهات للحظة التي سنلتقي فيها مجدّداً، لكن حتى لو انتظرتُ عشرين سنة أخرى ما كان ليخطر ببالي أن يكون لديك هذه القدرة العجيبة على إفساد اللحظات الاستثنائية.. (ما الذي تفعلينه هنا؟) جدّياً!! هذا كل تمكّنتَ من قوله؟”.

-” أنا آسف حقّاً.. كنتُ شارداً تماماً وأجفلني الصوت وفكرة وجود أحدٍ هنا في هذا الوقت، ثمّ ذهلتُ لكونه أنتِ، وما زلت لا أصدّق عيني. ” قال بينما نهض باتجاهها.  وضع يده على ذراعها واقترب ليقبّل خدّها.

دفعته بلطف وهي تبتسم ابتسامة لئيمة رائعة: “فَشَرتْ! لقد أفسدتَ اللحظة تماماً.. أفسدتَها رغم أن كلّ شيء كان مثاليّاً. نلتقي مجدّداً بعد عشرين سنة في نفس المكان، في ليلةٍ صافية مليئة بالنجوم تماماً كما كان الأمر في ليلة لقائنا الأول.. الوحيد.”

لم يقل آدم شيئاً، نظرَ في عينيها مطوّلاً ثمّ قال فجأة:” لحظة فقط..” وركض بضع خطوات باتجاه السيارة ونبش الكرسيّ الآخر.. نفضه جيّداً وفتحه بجانب كرسيّه: ” تفضّلي.” قال بينما كان يساعدها على الجلوس ممسكاً بيدها ومثبّتاً الكرسي في الأرض غير المستوية.

-” مرتاحة؟”.

-” لا بأس. من المؤكّد أن الجلوس على كرسي أفضل من الجلوس على صخرة بحواف ناتئة كتلك.” قالت مشيرة إلى الصخرة القريبة التي جلسا عليها في لقائهما السابق.

-” حسناً! تعجبني الطريقة التي تتطور بها الأمور. صخرةٌ.. فكرسيٌّ.. فسرير؟! لنأمل ذلك.” قال آدم بخبث.

-” آه! لم تعد ذاك المراهق الخجول إذاً؟! أصبحتَ جريئاً وتقول ما يدور في ذهنك بسهولة! حسناً، فلنأمل أن يكون هناك سرير في اللقاء القادم بعد عشرين عاماً، سيكون مفيداً نظراً لتقدمك في السن وعدم قدرتك على الجلوس طويلاً. ستحتاج إليه بالتأكيد لتريح مفاصلك المهترئة.”

-” وأنتِ؟ ما زلتِ سليطة اللسان جدّاً، لكنّكِ أصبحتِ أكثر جمالاً بكثير.” قال وهو ينظر إليها، لم تجب بشيء لكنّ عيناها باتتا أكثر لمعاناً.

-” بالمناسبة، لا أستطيع منع نفسي من التفكير بهاذين الكرسييّن. هذا أولُّ استخدامٍ لهما، علماً أنّهما يقبعان في الصندوق منذ سنوات، والمرة الأولى كانت لنجلس سويّاً. يبدو الأمر الآن وكأني كنتُ أفكّر بنا وبهذه اللحظة حين أحضرتهما.” قال آدم.

-” هل كنتَ كذلك فعلاً؟”.

لم يقل آدم شيئاً. جلسا صامتين لبعض الوقت جنباً إلى جنب. بدت السماء أكثر صفاء والرؤية أشدّ وضوحاً، أضواء المدن البعيدة صارت على مرمى حجر، والنجوم يكفي أن تنهض لتلتقط إحداها.

-” أخبريني عنكِ، هل تابعتِ دراستك؟ سافرتِ؟ تزوجتِ؟ “.

-” انسَ الأمر. دعنا لا نسأل أسئلة كهذه، ولن أسأل أيضاً لماذا لم تظهر في الليلة التالية للقائنا، كنّا على موعد أليس كذلك؟ فلنكتفِ بالادّعاء أن هذه هي الليلة التالية مباشرةً.”

-” كما تشائين، لكن هل تريدين إخباري كيف عرفتِ بوجودي هنا؟”.

-” لمحتكَ عصراً قرب المقبرة تمشي في الجنازة، لم أتأكد أن هذا أنت إلا حين رأيتكَ تنسلّ هارباً لمّا بدأ المشيّعون يتجمّعون للصلاة. أمّا توقّفك هنا بالذات، فكيف لك أن لا تفعل؟!”.

-“فهمتْ. تصوّري أنّنا لم نعد نأتي إلى هنا إلّا بسبب الموت! هل هناك ما يدلّل على بؤسنا أكثرَ من كون الموت بات رابطنا الوحيد بأحبّ الأماكن والأشياء إلى قلوبنا؟”

-” دعنا من الفلسفة أيضاً أرجوك. هذه الليلة أجمل من أن تُهدَر على كآبات لدينا كل الوقت للالتفات لها لاحقاً.” قالت ريما، ثمّ قفزتْ فجأة: ” انظرْ، انظرْ.” صاحت وهي تلاحق بإصبعها شهاباً إلى أن ابتعد مختفياً. ” هل تمنّيتَ أمنية؟”.

-” ربّما، هل فعلتِ؟”.

-” ربّما.” قالت وهي تضع يدها في يده.

ثمّ ساد صمت.. خفيف كخفّة إحساسهما بجاذبيّة الأرض.. جارفٌ كانقضاء عشرين عاماً في ساعة واحدة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.